كِن لوتش... المخرج يقف على يسار العالم

13 ابريل 2024
أثناء عرض فيلمه The Wind That Shakes the Barley في رام الله، 2011 (عباس المومني)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في ظل الحرب على غزة، تعزز التضامن العالمي مع فلسطين بفضل التقدم التكنولوجي وتنوع وسائل الإعلام، مما ساهم في توسيع نطاق الدعم من الجوانب الثقافية إلى المبادرات العملية.
- كين لوتش، المخرج البريطاني، يبرز كمثال للفنان الملتزم الذي دمج بين الفن والنضال السياسي، مركزاً على القضية الفلسطينية ومعارضة الصهيونية، مما جعله مستهدفاً بحملات التحريض.
- لوتش نشط في الحملات السياسية والثقافية، مؤمناً بأهمية النضال الثقافي إلى جانب السياسي، وسعى لتعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية ومواجهة السردية الإسرائيلية، مؤكداً على قوة الفن والثقافة في التغيير الاجتماعي والسياسي.

لعل التضامن وحشد الرأي العام تجاه القضية الفلسطينية من أهم الفجوات التي خلفتها حرب الإبادة على قطاع غزة في سردية الاحتلال الإعلامية. لم يكن التضامن عنصراً جديداً على ساحة القضية الفلسطينية، ولكن تطور وسائل وصول المعلومات وتلقيها جعل لهذا التضامن أشكالاً جديدة وأرضية أوسع، بالرغم من كونه علاقة مبنية على القوة يحددها شكل العالم المعاصر اليوم، تتمثّل في تضامن موجه من دول عالم أول نحو دول نامية، من دول تملك المعرفة وتتحكم بها إلى أخرى تحاول إيصال معرفتها وسرديتها. وفي هذا الوقت، غدت المعرفة هي معرفة الصورة الإنسانية والثقافية واللعب على مفهوم الصورة، التي تسعى دوماً حكومات الاحتلال إلى تشويهها.

نرى التضامن اليوم بأشكاله المختلفة والمتنوعة، إذ تشهد الساحة الثقافية والفنية المساحة الأوسع لخلق سردية مضادة للاحتلال ودعم فلسطينيي قطاع غزة والوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية. عمر هذا الحراك من عمر القضية تقريباً. على مدار أعوام تأسيس دولة الاحتلال والمجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين، نرى أغلب المثقفين والفنانين يصطفون إلى جانب القضية، من جان جينيه المسرحي الذي وثق مشاهداته عن مجزرة صبرا وشاتيلا وعاش مع الفدائيين الفلسطينيين، وصولاً إلى جاك-لوك غودار، المخرج الفرنسي الذي ابتعد عن خطه الثوري السينمائي ليصنع فيلماً مهدى إلى القضية.

وعلى غرار حركات التضامن العالمية، استقطب المزاد الذي تقيمه جمعية "سينما من أجل غزة" منذ 2 وحتى 12 إبريل/نيسان الحالي، لتوفير المساعدات الطبية، عدداً من الفنانين المتضامنين مع القضية والذين تبرعوا بمقتنياتهم وقاموا بفعاليات متنوعة تجاه دعم عمل الجمعية ومناصرة فلسطينيي قطاع غزة في حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال عليهم. وكان من بين الفنانين المشاركٍن، المخرج البريطاني كِن لوتش، الحائز على سعفته الذهبية الثانية عام 2016 عن فيلمه I, Daniel Blake والأولى عام 2006 عن فيلمه The Wind That Shakes the Barley.

لم يفصل لوتش نضاله السياسي عن عمله الفني طيلة حياته، فهو المخرج اليساري العضو في حزب العمال البريطاني الذي قرّر أن يناضل سياسياً نضالاً مبنياً على قناعات ثقافية وفكرية وإنسانية. لوتش المناصر لقضايا تحرير الشعوب والمعادي للصهيونية، الذي يسعى دوماً في سينماه إلى تفكيك الأنظمة الرأسمالية والدفاع عن الحقوق الإنسانية، واجه عدداً من حملات التحريض ضده، وحوكم عدداً من المرات بتهم نتيجة توجهاته اليسارية.

صنع لوتش فيلمه The Old Oak الصادر عام 2023 ليكون، بحسب تصريحاته، آخر فيلم له بعدما تضررت عينه كثيراً، وقدمه لمناصرة قضية اللاجئين في أوروبا، متخذاً من اللاجئين السوريين نموذجاً للمقارنة بينهم وبين بقايا الطبقة العاملة في مدينة بريطانية، إذ يضع حال اللاجئين وقضيتهم مقابل الإضرابات والثورة العمالية التي شهدتها مدينة تشكل العمالة في مناجم الفحم أساسها. يقارب لوتش حال العمال ونضالهم عبر إضرابهم الكبير في ستينيات القرن الماضي، وبين الأزمة الجديدة اليوم، وهي حال اللاجئين. تحرك إشكالية اللاجئين سكون المدينة الراكد، ليوصل الفيلم فكرة أن الشعوب المضطهدة دوما تستطيع أن تلاقي جذوراً إنسانية تتشارك بها وتتوحد، وأن هموم العمال لطالما كانت واحدة، وهي قضايا إنسانية اقتصادية بمجملها.

ولد لوتش عام 1936، وبدأ مشواره الفني منذ مطلع الستينيات؛ إذ عمل بداية مع التلفزيون مسلسل Z Cars، لينطلق بعدها كمخرج سينمائي قدم عدداً من الأعمال منها Land and Freedom وLooking for Eric وMy Name Is Joe. تمتلك أعماله خصوصية فنية، تمزج ما بين الحرفة والفن والانشغالات والهموم السياسية. يستند لوتش إلى حكاية من الواقع الراهن. حكاية بسيطة من اليومي والمعيش، ويقاربها سينمائياً ليقدم معادلة بصرية سينمائية مغرقة بالسياسي والإنساني في آن. ويستند في عمله إلى أسس يسارية متينة؛ فهو يقرر منذ بداية مشواره تحدي الرأسمالية وتقديم صورتها القاسية في أفلامه. لم يبحث لوتش عن السهل، ولكنه جعل اليومي أرضية للبحث عن مواضيع أكثر عمقاً.

لوتش ملتزم أخلاقياً تجاه القضايا التي يتبناها ويؤمن بها، فهو لم يتوانَ عن اقتناص أي فعالية ليعبر عن آرائه ويجاهر بها، خصوصاً في مواضيع تعتبر شائكة كالقضية الفلسطينية، ما سبب له دوماً العديد من الإشكاليات وتوجيه التهم. عام 2018، مُنح لوتش الدكتوراه الشرفية من جامعة بروكسل الحرة في بلجيكا، بالرغم من انتقادات رئيس الوزراء البلجيكي له ووصفه بأنه معادٍ للسامية، إلا أن لوتش رد بتغريدة له على حسابه في منصة إكس، قال فيها: "كل حياتي كنت أقف إلى جانب أولئك المعنيين بالمحنة التي يعيشها الفلسطينيون، إنه لأمر بشع اتهامي بمعاداة السامية".

لا تقف الاتهامات الموجهة إلى لوتش عند هذا الحد، فقد اتهم بأنه ينكر الهولوكوست والمحرقة عام 2018، ما أجبره على الرد على هذه الادعاءات. كذلك، نظمت مجموعة من الطلاب في جامعة أوكسفورد حملة ضد لوتش على خلفية محاضرة ألقاها عبر "يوتيوب"، فمنعته الجامعة من المشاركة في محاضرة في مقرّها، على خلفية الحملة الطلابية.

لم يتوانَ لوتش على الحضور في كل حدث يدعم القضية الفلسطينية والتعبير عن مواقفه السياسية وآرائه وفي كل المواقف. ففي دورة مهرجان كان السينمائي عام 2016، وبعد فوزه بالسعفة عن فيلمه I, Daniel Blake، حضر الفيلم التجريبي التسجيلي "ميونخ: قصة فلسطينية"، لمخرجه الراحل نصري حجاج. يصور الفيلم مقاطع مع فدائيين نجوا بعد تنفيذهم عملية فدائية في دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ عام 1972 وذهب ضحيتها 11 لاعباً إسرائيلياً. وكان عرض الفيلم إشكالياً بحد ذاته، وواجه لوتش العديد من الانتقادات، ولكن المخرج البريطاني يعتبر الوقوف إلى جانب القضية أساساً أخلاقياً لمواجهة الطغيان. وهذا الأساس الأخلاقي يدفعه إلى مقاطعة إسرائيل والدعوة جهراً في العديد من الكلمات التي ألقاها والحملات التي شارك بها إلى مقاطعة إسرائيل اقتصادياً وثقافياً وفنياً، وتشكيل قوة ضاغطة لدعم القضية الفلسطينية.

عام 2016 أيضاً، كان لوتش مدعواً كضيف شرف مهرجان "سينما فلسطين" المقام في باريس، وقدم وقتها كلمة افتتاحية يركز فيها على أهمية المقاطعة وعلى التوجه السائد في أوروبا والقرار السلطوي بمنع أي تضامن مع القضية الفلسطينية. وموقف لوتش يدفعه إلى اتخاذ خطوات تنفيذية؛ فهو منتسب إلى حملة المقاطعة BDS، كما أنه عضو في "محكمة راسل من أجل فلسطين" التي باشرت أعمالها عام 2009، وهي محكمة تسعى إلى تعبئة الرأي العام كي تتخذ الأمم المتحدة والدول الأعضاء في مجلس الأمن خطوات فاعلة لمحاكمة الجرائم الإسرائيلية. كذلك، يوقع لوتش على أغلب البيانات والأوراق السياسية الضاغطة على حكومة الاحتلال، منها بيان جمع قرابة 600 توقيع من عاملين في مجال الثقافة والفنون في بريطانيا عام 2015، يقتضي عدم تلبية أي دعوة مهنية من دولة الاحتلال الإسرائيلي.

يرى لوتش أن النضال الثقافي ضد إسرائيل من أهم الإجراءات التي يجب أن تتخذ إلى جانب النضال السياسي؛ فهو مدرك لخطورة الصورة الثقافية ودورها في العالم المعاصر، ويواظب على دعم أي عمل ونتاج ثقافي فلسطيني ليحاول إيصال الصورة الثقافية الحقيقية التي تحاول آلة الاحتلال الإعلامية طمسها.

ينطلق لوتش من القضايا الفردية إلى الجماعية ليبحث في جذور المجتمع وإشكالياته الطبقية، ويحقق العديد من الجوائز. في العام 1995، نال فيلمه "أرض وحرية" جائزة سيزار لأفضل فيلم أجنبي. العمل يبحث في أعماق الحرب الإسبانية في ثلاثينيات القرن المنصرم. وعام 1996، أنجز فيلمه "أغنية كارلا" من غلاسكو الاسكتلندية، ليروي معاناة نيكاراغوا. وفيلمه "خبز وورود" عام 2000 يحكي عن الحلم الأميركي والدولة الجديدة. لطالما شغلته قضايا الشعوب، فحرب العراق لم تمر دون أن يقدم لوتش مشروعه عنها في فيلم Route Irish عام 2010 الذي يروي الحرب من حكايا جنود عائدين إلى بلادهم.

المساهمون