كيف غير البلاستيك الفن والعالم من حولنا؟

17 اغسطس 2023
من الأعمال المعروضة (شيرن/فيسبوك)
+ الخط -

يتغلغل البلاستيك في كل تفاصيل حياتنا اليومية، من أدوات المائدة وأكياس القمامة، وحتى الهواتف والأجهزة الإلكترونية ومركبات الفضاء، وقد لا يمكننا حتى تصور العالم من دونه. في حقيقة الأمر، لا يقتصر وجود البلاستيك على الأدوات والأشياء التي نصنعها أو نستخدمها فقط، فقد بات من المؤكد أن جزيئاته تتسلل إلى مياهنا وهوائنا وأجسادنا.

يبدو البلاستيك كالمارد الذي أطلقناه بإرادتنا، لكننا لا نستطيع اليوم السيطرة عليه بعد أن أصبح منتشراً في كل مكان من حولنا. إذا أردنا تخيل العالم من دون بلاستيك علينا أن نعود إلى ما قبل الخمسينيات من القرن الماضي، فحينها كان يُستخدم على نطاق محدود ونادر. ولكن بقدوم عقد الخمسينيات تفجرت ثورة البلاستيك، وانتشر استخدامه في كل مكان في العالم، نظراً للمستجدات التي طرأت على صناعته وساهمت إلى حد كبير في خفض كلفة إنتاجه. ولم تمض سوى بضعة عقود حتى أصبح البلاستيك مظهراً رئيسياً من مظاهر الحياة الحديثة.

بدا البلاستيك عند ظهوره مادة ثورية واعدة ودليلاً على قوة الابتكار البشري، لذا فقد احتفى العالم به وبإمكاناته غير المحدودة، وكرمز للإبداع البشري. كان لا بد لمادة بهذه المواصفات أن تثير خيال الفنانين أيضاً، فهي خامة متعددة الخصائص، إذ يمكن أن تكون قوية أو لينة ورخوة، شفافة أو معتمة، خشنة أو ملساء، وهي قادرة أيضاً على اكتساب درجات لون مُبهرة.

استقبل فنانو الخمسينيات والستينيات مادة البلاستيك بترحاب بالغ، فقد بدت لهم مادة طيعة وسهلة الاستخدام، وبالإمكان توظيفها في سياقات لا حصر لها. لم تكن هذه الصفات وحدها هي التي لفتت انتباه الفنانين إلى البلاستيك، فرمزيته كمادة جديدة من صنع البشر كانت حافزاً على التفكير وطرح التساؤلات حول مستقبل البشرية والإمكانات الهائلة التي أتاحها العلم والصناعة.

اكتسبت هذه التساؤلات دافعاً قوياً حينها، خاصة أن ظهور البلاستيك تزامن مع عصر الفضاء، وانتهاء الحرب العالمية الثانية بفاجعة إلقاء القنبلة النووية على اليابان.

مثّل البلاستيك اكتشافاً مدهشاً للكثير من الفنانين المهتمين بالتعبير عن الحداثة ومظاهرها وتأثيراتها البصرية، وتداخل على الفور في الكثير من التجهيزات المجسمة والإنشاءات المعمارية. غير أن هذا الترحيب الشديد الذي صاحب ظهور البلاستيك من قبل المجتمع والفنانين يتناقض اليوم مع النظرة الحالية لهذه المادة وطبيعتها المدمرة للبيئة، والتي بدأت تتكشف أمام أعين العالم.

من أجل تسليط الضوء على هذا التحول في نظرتنا إلى البلاستيك، تستضيف حالياً مؤسسة شيرن (SCHIRN) للفنون في مدينة فرانكفورت الألمانية معرضاً تحت عنوان "عالم البلاستيك". يستمر المعرض حتى الأول من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ويقدم استكشافاً مثيراً للعلاقة المعقدة والإشكالية بين البلاستيك والفن.

يتعمق هذا المعرض في تاريخ البلاستيك وعلاقته بالابتكار الفني، وتحول النظرة إليه، من اعتباره رمزاً للتقدم إلى مشكلة بيئية ملحة. يتتبع "عالم البلاستيك" هذا التطور، ويتنقل عبر مختلف العصور والحركات الفنية التي سخرت إمكانات البلاستيك في التعبير البصري. يرسم المعرض مساراً للتحول الذي طرأ على وعينا خلال هذه السنوات التي تسلل فيها البلاستيك إلى كل تفاصيل حياتنا، وكيف تزايد اعتمادنا عليه على نحو مقلق.

يضم المعرض مجموعة متنوعة من أكثر من 100 عمل لنحو 50 من الفنانين العالميين. تمثل الأعمال المشاركة مراحل هامة في تاريخ الفن، من الواقعية الجديدة وثقافة البوب الطاغية خلال فترة الستينيات، والتي جسد البلاستيك خلالها رؤى الفنانين للمستقبل، إلى الوقت الراهن الذي يمثل فيه البلاستيك مصدراً للخوف والقلق والجاذبية الخادعة.

بين الأعمال المشاركة ثمة أعمال لفنانين بارزين على الساحة الدولية، مثل الفنانة الكويتية منيرة القادري (1983)، والنحات الفرنسي سيزار (1921 – 1998). يعرض هؤلاء الفنانين أعمالهم إلى جانب نماذج من التركيبات الهندسية المعاصرة لأسماء مهمة وفارقة في مجال الهندسة المعمارية الحديثة.

يشترك المعماريون في توظيفهم لمادة البلاستيك في تصاميمهم وتصوراتهم المعمارية، ما ساهم بشكل كبير في تداخل الحدود بين العمارة والفن. بين أبرز هؤلاء المعماريين المهندس النمساوي الراحل هانز هولن (1934 – 2014).

لا يفوًت المعرض الفرصة أيضاً لمواجهة المخاوف البيئية الملحة المرتبطة بالبلاستيك في أعمال الفنانين، من الأعمال التي اعتمدت على المواد المهملة لفناني الواقعية الجديدة في ستينيات القرن الماضي، إلى الأعمال المعاصرة المسكونة بالعديد من التساؤلات حول مستقبل البشرية الغامض في ظل حالة التدهور البيئي التي نعايشها.

في تقديمها لهذه الأعمال، تذهب القيّمة على المعرض مارتينا وينهارت إلى اعتبار البلاستيك رمزاً صارخاً للتناقضات. توضح وينهارت كيف أن ما تبين اليوم أنه عبء على البيئة قد ساهم في تغيير الفن والمجتمع جذرياً، وفي وقت قصير جداً، كما مثّل إثراءً هائلاً للهندسة المعمارية والتصميم.

يواجه معرض "عالم البلاستيك"، عبر تقاطع الفن والتاريخ والبيئة، الطبيعة المزدوجة للبلاستيك كرمز للتقدم وعلامة للتدهور البيئي. ومن خلال الجمع بين تجارب ووجهات نظر فنية متنوعة يدعونا المعرض إلى إعادة تقييم علاقتنا بهذه المادة وتصور مستقبل أكثر استدامة.

المساهمون