استطاع كمال الطويل أن يجعل من نفسه شريكاً مهماً في صناعة المشهد الموسيقي والغنائي المصري، خلال النصف الثاني من القرن الماضي. شكل مع المطرب الأشهر عبد الحليم حافظ ثنائياً فنياً، وحققا معاً نجاحاً شعبياً كبيراً. لكنه أثبت مراراً أن نجاحه ليس مرتهناً بصوت العندليب، إذ نالت ألحانه لنجاة وشادية وفايزة أحمد وعبد المطلب ومحمد رشدي قبولاً جماهيرياً لافتاً، ثم جاءت تجاربه في تلحين الأغنيات السينمائية، أو المصاحبة للدراما التليفزيونية، لتؤكد معنى الاستمرارية عند الرجل، وقدرته على التعامل مع أنماط غنائية متباينة. مئوية ميلاده الموافقة هذا العام، تمثل فرصة لفهم أسباب نجاحه ومبررات جماهيرية ألحانه -على تنوعها- خلال خمسين عاماً.
بدأ كمال الطويل خطواته الفنية الأولى قبيل حركة 23 يوليو 1952، فلم يلبث طويلاً إلا وقد قامت الثورة وأعلنت الجمهورية، ليبدأ عهداً جديداً أتاح سياقاً مواتياً تأتي فيه الرياح بما تشتهي سفينة الملحن الشاب.
كانت الأرض تتمهد أمامه ليسير في طريقه من دون عقبات كبيرة. التغيرات السياسية والاجتماعية فتحت له الطريق ليقدم أفكاره التلحينية ذات الطابع المسرحي. احتاجت ثورة يوليو إلى مطرب يعبّر عن توجهها، فكان عبد الحليم، واحتاج هذا الأخير إلى موسيقي يصوغ الألحان على مقياس ثورة يوليو، فكان الطويل.
طرح الرجل نفسه باعتباره مهتماً بـ"التجديد" الموسيقي، وتقديم شيء يحمل قدراً من الاختلاف. اهتم بالتوزيع، ومال إلى التضخيم الآلي، والمقدمات القصيرة الواضحة، وسارت التجربة في خطين متوازيين: الخط الرومانسي ذو الطابع الحداثي، والخط السياسي الثوري المعبّر عن العهد الناصري ومعاركه.
وقد أثبتت الأيام والسنوات أن الخط الرومانسي كان أطول عمراً من الخط السياسي، فعشاق عبد الحليم حافظ -وهم كثر- يقدرون كثيراً تلك الألحان العاطفية التي وضعها الطويل للعندليب، ومنها "في يوم في شهر في سنة"، و"على قد الشوق"، و"بلاش عتاب"، و"بتلوموني ليه"، و"بيع قلبك".
كانت تلك الأعمال أبقى بين قطاعات جماهيرية من الأغنيات المنغمسة في الأحداث السياسية، وتمجيد شخص جمال عبد الناصر، والدعاية لتوجهات السلطة داخلياً وخارجياً، سياسياً واجتماعياً، وقد اختلط فيها الجيد بالمتوسط بالضعيف، بل الرديء، ولا سيما مع تورط صلاح جاهين في مجموعة من النصوص بالغة الركاكة والضعف والمباشرة، ليغنيها عبد الحليم بألحان الطويل.
سمع الشعب المصري والجماهير العربية للمرة الأولى غناءً للمبادئ الاشتراكية، واتحاد الشعب العامل، والاتحاد الاشتراكي العربي. وتوالت الأغنيات التي تصف عبد الناصر بأنه فاتح باب الحرية، وزعيم الأمة الذي لم تعرف الأمة سواه. ومن الأمثلة الصارخة لتلك النصوص، كلمات أغنية "بلدي يا بلدي"، ومنها هذا الجزء:
"ياللي عليك تنفيذ مبادئنا إن كنت صغير ولا كبير.. مبادئنا يعني ثورتنا.. يعني أمانة وشغل كتير.. لو تخدم باشتراكية.. وبذمة وهمة قوية.. أنا زي ما قال ريسنا.. راح اشيلك جوا عنيا.. وإن خدت المركز جاه.. ولعبت اللعب اياه.. ولا همك غير مصلحتك.. وظلمت فى خلق الله.. هنقولك: يا عديم الاشتراكية.. يا خاين المسؤولية.. هنزمر لك كده هو.. ونطبلك كده هو". لم تتوقف هذه الموجة إلا بزلزال هزيمة يونيو/حزيران 1967. وبعدها فقط جاءت الأعمال التي تتغنى بالوطن، ليس بحكامه وحكمتهم.
بذكاء شديد، فهم كمال الطويل المستجدات السياسية والاجتماعية، والأهم، أنه فهم المزاج الشعبي، الذي يحب الألحان السهلة الواضحة المباشرة، فقدم تلك الخلطة، من الرومانسية والوطنية. يمكن أن نصف الطويل بأنه ملحن شعبي بامتياز، ليس بالمعنى الشائع الذي اعتدنا إطلاقه على أغاني عبد المطلب أو محمد قنديل أو محمد رشدي أو شفيق جلال، بل بمعنى الاقتراب الكبير من جمهور واسع، يستمتع بسهولة الألحان ووضوحها، ولا يُحب "التعقيدات النخبوية" ولا الرصانة الطربية.
جمهور يريد رسائل واضحة، لا تحتاج إلى جهد لفهمها والانفعال بها، ولم يكن بين المطربين من هو أقدر من عبد الحليم على حمل هذه الرسائل وإيصالها إلى الملايين. كان الارتباط الفني بين كمال الطويل وعبد الحليم وثيقاً، ولكل من الرجلين دور مهم في تقديم الآخر إلى الجماهير، كان العندليب أول من شجع الطويل على التلحين، كما كان للملحن الصاعد دور مهم في فتح أبواب الإذاعة أمام عبد الحليم، الذي يمثل صوته الجانب الأكبر من إنتاج الطويل للمطربين والمطربات جميعاً.
وبالرغم من كل ما سبق، فإن ظلماً بيّناً يقع على كمال الطويل، إذا رددنا كل نجاحاته وشعبية ألحانه إلى أسباب غير فنية، ترتبط بالسياق السياسي والاجتماعي الذي واكب صعوده. بدأ الرجل رحلته مع التلحين وهو لا يزال طالباً في المعهد العالي للموسيقى العربية، استجابة لمقترح زميله عبد الحليم حافظ، فتذكر كلمات قصيدة دينية، كان والده زكي الطويل قد كتبها، يقول مطلعها: "إلهي ليس لي إلاك عونا.. فكن عوني على هذا الزمان".
وبالتشاور مع عبد الحليم أيضاً، قدم الطويل اللحن إلى زميلتهما في المعهد المطربة فايدة كامل، التي كانت قد اعتمدت إذاعياً. وبالفعل، حفظت اللحن وسجلته، وبثته الإذاعة، ثم كانت التجربة التلحينية الثانية لكمال الطويل مع شعر والده أيضاً، بكلمات تقول: "قل ادع الله إن يمسسك ضر"، التي غنتها شادية.
وإذاً، تعلّم الطويل أصول الموسقى، وتخرج من معهدها العالي، وبدأ ممارسة التلحين فعلياً، وعُين مقدماً لبعض البرامج الموسيقية في الإذاعة، وحقق قدراً مقبولاً من النجاح قبل قيام يوليو 1952، وبعد ثلاث سنوات فقط من قيام الثورة، وتحديداً عام 1955، اختارته أم كلثوم ليلحن قصيدة طاهر أبو فاشا "لغيرك ما مددت يدا"، وهي إحدى أغنيات أوبريت رابعة العدوية. لم يكن هذا أمراً هيناً.
ولعل أكبر ما يثقل به ميزان كمال الطويل، هو قدرته الكبيرة على منح كل صوت اللحن المتناسب مع قدراته، بل ومع شخصيته الغنائية، حتى إن المستمع لا يكاد يظن أن تلك الأغنيات لملحن واحد، وهذه بعض الأمثلة: "يا رايحين الغورية" لمحمد قنديل، و"الناس المغرمين" لعبد المطلب، و"قمر يا إسكندراني" لمحمد رشدي، و"القلب بيتنهد" لليلى مراد، و"مال الهوى يا امه" لصباح، و"أسمر يا أسمراني" لفايزة أحمد، و"حياة عينيك" لشادية، و"علي صوتك بالغنا" لمحمد منير.
هذه الألحان تؤكد أن الرجل ألبس كل مطرب ثوبه الملائم. وبالقطع، فإن للطويل ألحاناً سينمائية وتلفزيونية مثلت علامات مهمة في تاريخ أغاني الأفلام والمسلسلات. ومن المهم الانتباه إلى تلك الألحان التي وضعها لتؤديها سعاد حسني في عدد من أعمالها، وحققت نجاحاً جماهيرياً كاسحاً ومستمراً، وبقيت ترددها الأجيال الجديدة إلى اليوم، ومنها "يا واد يا تقيل"، و"الدنيا ربيع"، و"جرس الفسحة"، و"شيكا بيكا"، و"دولا مين ودولا مين"، فسعاد حسني، رغم تعدد مواهبها، لا يمكن تصنيفها مطربة، لكن الطويل استطاع أن يمنحها ألحاناً لا تنمحي سريعاً من ذاكرة الجماهير.
في عام 1956، غنت أم كلثوم من كلمات صلاح جاهين وبألحان كمال الطويل "والله زمان يا سلاحي". وبعد عدة أعوام، اختيرت الأغنية لتكون نشيداً وطنياً للدولة المصرية. عُزف رسمياً للمرة الأولى فى 20 مايو/أيار 1960 في أثناء مراسم وداع عبد الناصر لرئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو. كان الطويل معتزاً -ومعه الحق- بأنه ملحن السلام الوطني لبلاده، في زمن يتعاصر فيه عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي.
لكن مع أواخر السبعينيات، وزيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس، وبدء المفاوضات المصرية الإسرائيلية، رأى السادات أن نشيداً يتحدث عن السلاح والكفاح لا يُناسب المرحلة، وبيّت العزم على تغييره، وبالفعل، لم يمضِ وقت طويل حتى تلقى محمد عبد الوهاب تكليفاً رسمياً بتجهيز نشيد بلادي الذي لحنه سيد درويش ليحل سلاماً ونشيداً وطنياً لمصر بديلاً من "والله زمان يا سلاحي". وهو ما كان، ليترك هذا التغيير غصة في حلق كمال الطويل الذي لم يكن يخفي رفضه لسياسات السادات، بل صرّح في حوار مسجل أنه لا يوافق السادات في أي من قراراته باستثناء قرار حرب أكتوبر.
بعد سنوات، عاد الطويل إلى جذوره الليبرالية التي طمستها الحقبة الناصرية، فانضم إلى حزب الوفد، وأقر بأن بعض ألحانه التي غناها عبد الحليم في الخمسينيات والستينيات حملت كثيراً من المبالغات، بل حملت ما يستحيل تحقيقه من أي سلطة أو نظام، وضرب بنفسه مثلاً من أغنية المسؤولية التي تقول: "تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا.. في كل قرية عربية".
يُجمع كل من عرفوا كمال الطويل أن الرجل كان مثالاً للإخلاص والاستقامة والنزاهة، وأنه بالفعل، صدق الحلم الناصري، وتفاعل معه إيجابياً، إلى أن وقعت الهزيمة المرة، فأصابه ما أصاب مجايليه من حزن واكتئاب تجلت بعض مظاهره في الألحان التي تلت النكسة، وأن تلك التجربة المرة كانت وراء مواقفه السياسية التي تبناها في سنواته الأخيرة، ودفاعه المتكرر عن الديمقراطية.
أحب الطويل الموسيقى، واستهواه فنّ التلحين، ومارسه هواية ليس كسب عيش، فكان الملحن الوحيد الذي لا يتلقى أجراً من مطرب مقابل لحن، لم يكن يقبل المال إلا من المؤسسات الرسمية، وكانت ألحانه هدية لمن يحب أصواتهم. كان موهوباً، لكن أثر الأقدار السياسية والاجتماعية في حياته أكبر من موهبته، فجاءت ألحانه مستجيبة لواقع طارئ، كأنها فعل ضروري عاجل، تحتمه حوادث تاريخية كبيرة، أو كما وصفه محمد عبد الوهاب: يحاول أن يفعل شيئاً.. لكنه لم يصل إليه بعد.