تُصرّ إدارات مهرجانات سينمائية عربية عدّة، مُقامة في مدنٍ عربية، على إصدار كتبٍ مختلفة في كلّ دورة من دوراتها السنوية. تختصّ الكتب، غالباً، بشخصيات سينمائية تُكرَّم لسببٍ ما. هذا يعني أنّ تأليفها يرتكز على الإيجابيات فقط، فالمناسبة احتفالية، والنقاش غير مُحبَّذ، والنقد مرفوض. طبيعة المناسبة تفرض مسائل كهذه، إذ يستحيل تكريم شخصية سينمائية في حفلة افتتاح أو ختام، والكتاب الصادر عنها يتضمّن تحليلاً نقدياً لسيرتها المهنيّة، بما يحمله النقد من تفكيك وسجال.
لكنّ المأزق كامنٌ في أنّ الابتعاد عن النقاش والنقد والتحليل يبلغ مرتبةً غير مقبولة من المديح، مع إظهار "أنا" المؤلِّف، كثيراً أو قليلاً، فيُصبح الكتاب، أحياناً، "تكريماً" لمؤلِّفه بقلم المؤلِّف نفسه، لا للشخصية المُكرَّمة.
إصدار كتبٍ تكريمية في مهرجانات كهذه تجربة فاشلة، طباعةً وجودة ونصّاً وصوراً وتوزيعاً وقراءة. ضيوف المهرجان غير مكترثين بالكتب، وغالبيتهم الساحقة تتركها في غرف الفنادق بعد انتهاء كلّ دورة. هذا حاصلٌ منذ أعوامٍ كثيرة، في مهرجانات تُعتَبر أساسية في العالم العربي، كالقاهرة ودمشق وقرطاج، إذْ يُنظِّم مدراؤها ندواتٍ فكرية ونقدية تتناول قضايا سينمائية عربية عامة، توزَّع مداخلاتها المكتوبة على الضيوف، الذين يغيب معظمهم أصلاً عن تلك الندوات، والذين يتخلّون سريعاً عن المطبوعات.
بعض تلك الندوات مهمٌّ حينها، فستينيات القرن الـ20 وسبيعينياته تحديداً مليئة بغليان ثقافي وفكري وفني واجتماعي، تُشارك السينما العربية فيه، و"يتورّط" سينمائيون وسينمائيات في تفاصيله وتحوّلاته وأسئلته واشتغالاته، محاولين إنجاز تجديدٍ ما في شكل الفيلم، وفي كيفية تناوله موضوعاً وحالة وحكاياتٍ. رغم هذا، ينفضّ كثيرون عن ندوات كهذه، وعن مطبوعاتها أيضاً، كالحاصل الآن مع كتبٍ غير مفيدة البتّة لشدّة بهتانها، كتابة وسرداً وتفاصيل ومضموناً. الكتب الأهمّ قليلةٌ، إذْ يُحاور نقّاد أو صحافيون سينمائيون المُكرَّمَ، ما يجعل النصّ، رغم ركاكة كتابته وغياب تحريرها، مستَنَداً يُفيد المهتمّ ولو قليلاً، فالكلام عائدٌ إلى الشخصية المُكرَّمة، وهذا مطلوب أحياناً في المهنة.
إلى الأخطاء الفادحة في اللغة والقواعد والطباعة، يسرد بعض مؤلّفي هذا النوع من الكتب حكاياتٍ منسوبة إلى المُكرَّم، وإلى علاقة المُكرَّم بمؤلِّف الكتاب، التي يصعب تأكيدها، فالمُكرَّم متوفّى، والمؤلِّف يستند إلى غيابه لـ"يُخبِر" قارئ مؤلَّفه (!) ما يحلو له من حكايات. رغم أنّ كتباً كهذه توزّع في أيام كلّ دورة، من دون أنْ تدخل المكتبة السينمائية أو تُباع في المكتبات، يتصدّى زملاء لها، يُفنّدون الوارد فيها، ويُقارنون بين محتواها، أو بعضه، وما تحتفظ به كتبٌ أكثر مصداقية، أو أرشيفٌ يندر أنْ يُخطئ.
بعض الزملاء يُحلِّل مستعيناً بمنطق القراءة النقدية، ومستنداً إلى أقوالٍ ومؤلّفات وأعمالٍ خاصّة بالمُكرَّم، لتبيان ادّعاء مؤلِّف الكتب التكريمية وافترائه وكذبه. كتب الحوارات أفضل، رغم ما فيها من استسهالٍ في الكتابة، وميلٍ أكبر إلى ذكرياتٍ وماضٍ ومروياتٍ، بدلاً من نقاشٍ نقدي، يحضر أحياناً في أسئلةٍ أو سجالٍ بين المؤلِّف والمُكرَّم، وهذا نادرٌ. تجربة الزميل المصري طارق الشناوي مع حسن حسني وسمير غانم، مثلاً، نموذجٌ للمطلوب في كتبٍ كهذه، بمزجها مفهوم التكريم بشيءٍ من الذكريات والحكايات والنقاش المتواضع.
تعليقٌ كهذا لن يتغاضى عن تجربة شخصية. الزميل المصري عصام زكريا، بصفته رئيساً (سابقاً) لـ"مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، يطلب منّي نصاً عن السينمائي اللبناني برهان علوية لتكريمه في الدورة الـ21 (10 ـ 16 إبريل/نيسان 2019). النص كتيِّبٌ من 32 صفحة، فيه إعدادٌ لسيرته ومسيرته لعرفة محمود. زكريا يحتاج إلى نصٍّ يُكرِّم علوية ويقرأ نتاجه نقدياً. للسينمائي اللبناني تجربتان مصريتان: "لا يكفي أنْ يكون الله مع الفقراء" (1978)، عن المعماريّ المصري حسن فتحي ومعه؛ و"أسوان" (1991)، عن السدّ العالي. التجربة غير متساوية والتوقّعات. ضيق الوقت عاملٌ أساسيّ، لكنّ بعض كسلٍ واستسهال يحول دون إتمام المطلوب بشكلٍ يُناسب اللحظة. أو ربما لقناعة ذاتية بعدم جدوى نصٍّ يُفترض به أنْ يحافظ على نَفَسٍ تكريميّ بحت. أستعيد النص بين حين وآخر، وأُدرك أنّ نتاج المُكرَّم غير حاضرٍ كفاية، بما يليق به وبصانعه. هذا رغم إدراكٍ مهنيّ سابقٍ على التجربة، يقول بأخطاء كتبٍ كهذه، وبخلل نصوصها وبهتان اشتغالاتها.
اختيار علوية لتكريمه في مهرجانٍ سينمائي، يُقام في مصر، استثناء. الغالبية الساحقة في التكريمات المصرية لمصريين ومصريات. يندر الخروج من هذه القوقعة. هذا أيضاً خطأ وخلل وبهتان، إضافة إلى غيابٍ شبه كامل لسينمائيين وسينمائيات مصريين، ينتمون إلى أكثر من جيلٍ لاحق على ذاك الذي يحتلّ المساحة الأكبر في التكريمات السنوية، مع أنّ معظم هؤلاء غائبٌ أصلاً. للسينمائيين والسينمائيات اختبارات مُثيرة لمتعٍ ونقاشاتٍ ومتابعة، لكن النظام المتحكّم بثقافة المهرجانات غير مكترثٍ بهم.
يميل زملاء إلى إلغاء هذا التقليد كلّياً. لكنْ، للمهرجانات رأيٌ آخر، فلعلّ في تقليدٍ كهذا علاقات عامة ومصالح فردية.