ما هي النكتة التي يمكن إلقاؤها أمام كتيبة عسكريّة، في طريقها إلى غزة لقتل أطفال؟ هذا السؤال ليس فرضيّة في علم الأخلاق، بل سؤال يمكن أن يطرحه من يتأمل صور جنود الاحتلال الإسرائيلي في كتيبة "ياهسام 179" في قاعدة ناهشونيم (الرّواد) في إسرائيل.
كشفت صحيفة لوموند الفرنسيّة عن مشاركة كوميديين في عروض متعددة للتخفيف عن الجنود المحتمل أن يستدعوا إلى قطاع غزة، و"الحفاظ على حماسهم". لا نتحدث هنا عن جيري ساينفلد، الكوميدي الذي زار دولة الاحتلال أخيراً، بل إيلاي هافيف مثلاً، الذي ألقى نكتة أمام الجنود على شاكلة: "لا وقت لدينا في الحرب كي نكون حريصين على البيئة!".
لا يمكن تجاهل الدور الذي يلعبه الكوميديون في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سواء أكانوا هواة أم محترفين؛ فإما يتجنبون الحديث عن الموضوع، أو ينتصرون للسرديّة الإسرائيليّة. لكن، ما يهمنا بدقة، هو العروض الحيّة أمام "الجنود"، الذين يجب أن يبقوا "متحمسين". في هذا السياق، نتساءل: متحمسون من أجل ماذا؟ قصف قطاع غزة؟ تدمير المستشفيات؟ قتل الأطفال؟ الدفاع عن "الوطن"؟
تقول ميتال يانيف، الجندية السابقة في الجيش الإسرائيليّ، والتي أصبحت ناشطة ضد الصهيونيّة، إن "الدخول في الهوية الإسرائيليّة في عائلتي يتم عبر إزاحة الديانة اليهوديّة، والتحول إلى جندي بطل في الجيش الإسرائيليّ". السؤال هنا عن أيديولوجيا الجندي الإسرائيلي أو "المقاتل المفاهيمي"، حسبما يوصف في الأدبيات العسكريّة الاستعمارية: ما الذي يمكن أن يُضحكه وهو يعلم بدقة مقدار جرائم الحرب التي ترتكب باسمه وعلى يده؟ لا تهم حقيقة الجواب، إذ لا يمكن الإجابة عن سؤال أيديولوجي كهذا.
اللافت في هذا الشكل من التعبئة الأيديولوجية هو الحفاظ على المقارنة مع الهولوكوست، ووصف عملية طوفان الأقصى بـ"هولوكوست ثان". وهنا المفارقة، نعم هناك نكات عن الهولوكوست، لكن كان الضحايا هم من يطلقونها، ليس مرتكبي الجرم والانتهاك. وهنا بالضبط تكمن خطورة الأيديولوجيا الإسرائيليّة حين تتحكم بالسردية اليهوديّة. هي تسحب الشرعية من الهولوكوست، وتحوله إلى شماعة ليست للضحك، بل للقتل. لكن المفارقة، حسب صحيفة لوموند، أن هناك خطّاً أحمر لا يجوز الضحك بخصوصه، ألا وهو الرهائن، فهي تلقي مسؤولية عدم الإفراج عنهم بصورة كاملة على حكومة نتنياهو.
الضحك هنا ينتصر للقاتل وليس للضحيّة، بعكس تقاليد الهولوكوست نفسها.
ولا نحاول هنا القول إن "نكات الجنود" أمر محصور في دولة الاحتلال الإسرائيلي. الولايات المتحدة في قواعدها تقيم مهرجانات من الضحك والموسيقى لأجل الجنود. لكن في الحالة الإسرائيليّة في الذات، نحن أمام إبادة جماعية يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، والمفترض أن يحاكم عليها في لاهاي. فهل هناك نكتة يمكن إطلاقها بهذا الخصوص أمام الجنود؟
النكتة هنا ليست الإشكال بحد ذاته، بل السياق نفسه، أي شكل الصورة المرعب: كوميدي بمواجهة جنود يضحكون، ودبابات في حالة الاستعداد. هل يجرؤ كوميدي في "الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط" على السخرية من المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الذي حوّل أيام الأسبوع إلى قائمة بأسماء مقاتلي حماس؟ لا نعلم، لكن ما نعلمه أنه أثناء تدمير قطاع غزة لا داعي للتفكير بالبيئة.
لا تكتفي إسرائيل بالكوميديا بوصفها أسلوباً للشحن الأيديولوجي، بل هي جزء من بروباغندا العدوان على قطاع غزة والإبادة الجماعية.
كما أنها تشمل السخرية من الضحايا والقتلى، واتهامهم بالكذب. صحيح أن النكتة لا تعرف حداً، لكن لا بد من الوعي بدقة بأن النكتة، وإن كان هدفها الإضحاك، يفصلها خيط دقيق عن خطاب الكراهيّة وضرب الأضعف عوضاً عن الضحك معه. وهنا المفارقة شديدة المأساويّة، أن نضحك مع القاتل على الضحيّة، أمر يختلف عن الضحك من القاتل ومع الضحيّة. حروف جرّ صغيرة، لا تتضح أمام ماكينة القتل الإسرائيليّة، المستعدة لتوظيف كل الخطابات الجدية وغير الجديّة في سبيل الاستمرار بالقتل من جهة ومحاربة الحق الفلسطينيّ من جهة أخرى.