كافيه دو فرانس... ملامح المعمار الأوروبي في الدار البيضاء

31 يناير 2022
ارتياد المقهى هو علامة من يوميات الإنسان المغربي (عبد الحق سنّا/فرانس برس)
+ الخط -

تميّز النّمط المعماري الغربي بجرأة التشييد، إذْ يكتسح بألقه وتوهّجه وجماليّاته فضاء المدينة وينثر أساليبه وتاريخه وفنونه وأعلامه وتماثيله وزخارفه وصناعته على وجوهها، غير مُكترثٍ بأيّ سُلطة سياسيّة قاهرةٍ أو أساسٍ اجتماعي أو مرجعية دينية. 

مختبر للحداثة

هذا ما يجعله يخطف أنظار المُشاهد المغربي على ساحات شارع محمّد الخامس بمدينة الدارالبيضاء ويُربك الذوق الفنّي الذي تربّى عليه، بل ويجعله أسيراً لشبكةٍ بصريّة مرئية من الألوان والرموز الحضارية والمدارس الفنّية والتيارات الجماليّة الغربيّة، التي تتعاضد في ما بينها لتُكوّن صورة معمارية خاصّة لشارع ظلّ منذ المرحلة الاستعمارية، يُشكّل مختبراً للحداثة المعمارية الغربيّة على الأراضي المغربيّة. لكنْ تاريخياً، لم تكُن المقاهي المغربيّة المُشيّدَة إبّان الحقبة الكولونياليّة هواجسها معمارية وجماليّة، وإنّما استعمارية حيث يجتمع بعض الأفراد الذين يُمثّلون السُلطة الفرنسيّة مع بعض القواد لتزويدهم ببعض الأخبار حول مشاغل المقاومة ببعض المُدن المركزيّة، مقابل الشاي والسكر وبعض المواد الأوّلية.

تاريخياً لم تكُن هواجس المقاهي المغربيّة المُشيّدَة إبّان الحقبة الكولونياليّة معمارية وجماليّة وإنّما استعمارية

خروج من النمط الاجتماعي التقليدي

ورغم ذلك فقد اكتسبت بعض المقاهي شهرة في فتراتٍ لاحقة لحظة خروج المغرب من مرحلة الحماية والاستعمار صوب فتراتٍ مُتقدّمة من مرحلة الاستقلال أو قبله بقليل، حيث سيتغيّر مفهوم المقهى لتُصبح كازابلانكا ملاذاً لكبار الدبلوماسيين والفنّانين والمخرجين والسياسيين الذين زاروا المدينة وجلسوا في مقاهيها حتّى غدت تُعرف بهم. ما شجّع عملية ارتياد هذه المقاهي من لدن المغاربة، خاصّة في "مقهى فرنسا" ("كافيه دو فرانس" كما يقول لها سكّان المدينة) التي أضحى ارتيادها اجتماعياً علامة في يوميّات الإنسان المغربي وخروجه من النّمط الاجتماعي التقليدي السائد قبل الاستعمار.

هكذا أصبح المغاربة يأتون من مناطق وأحياء هامشية بعيدة عن شارع محمّد الخامس بمركز المدينة وهم يرتدون لباساً جميلاً ومُغايراً للجلوس بـ "كافيه دو فرانس" والاستمتاع بجماليّة المدينة وتجاذب الناس فيها داخل معمار غربي يُغذّي لاشعور الجالس بصُوَرٍ مُذهلةٍ وإحساسٍ غريب في ذلك الوقت.

غياب التوثيق

إنّ أغلب الكتابات الصحافيّة التي وثّقت عوالم مقهى فرنسا بالدارالبيضاء، لم ترتكز إلا على الجانب الاجتماعي للمقهى وعلاقته بالسكان ماضياً وحاضراً، بسبب غياب مُعطياتٍ علمية حول معمار المقهى، مع ملامحه الأوروبية التي تظلّ بارزة بالنسبة لأيّ شخصٍ يتردّد عليه. ما يجعلها عامّة وقابلة للتطبيق على مختلف المقاهي التي تحمل في طيّاتها بُعداً تاريخياً، مُتناسين ملامح المعمار الغربي، التي ينضح بها المقهى وحضوره المُتوهّج في حياة الأفراد. لهذا بقدر ما يغيب التوثيق المونوغرافي لهذا المعلم، تبقَى قصصه وحكاياته وصورته في شكله المعاصر تستحوذ على مُتخيّل السكان وينسجون معه ذكريات جميلة، مع أنّها تختلف حسب الزائر المُتردّد على المقهى.

أغلب الكتابات الصحافيّة التي وثّقت عوالم مقهى فرنسا بالدارالبيضاء، لم ترتكز إلا على الجانب الاجتماعي للمقهى وعلاقته بالسكان

مظاهر التسليع

يحكي لي الكثير من الأصدقاء الفرنسيين جماليّات النوستالجيا التي تجعلهم يحلمون ويتخيّلون عدداً من الأفلام العالمية التي صُوّرت بالمقهى وملاحظة نماذج من التباين الطبقي بساحة الأمم المُتّحدة، حيث تقف أفخم الفنادق والمُؤسّسات والبنوك الدولية تُلامس السماء، مقابل صورة المدينة القديمة وأطلالها المُتهدّمة وبجنباتها باعة متجولون ورجال يبيعون الخبز والماء والحلوى. لكنّ الوجهة الجانبية الثانية من المقهى، تُمكن هؤلاء الزوار من تتبع النظام المعماري الصارم بشارع محمّد الخامس ومَظاهر التسليع والترفيه التي بدأت تكتسح الشارع التاريخي على شكلٍ محلاّتٍ تجارية ومقاهٍ وحاناتٍ.

مع أنّ واجهات البناية، لاتزال تحتفظ كاملة ببريقها التاريخي وزينتها وتوهّجها وقدرتها على خلق صورة جذابة. وبالتالي، فإنّ مكانة "كافيه دو فرانس" لا تنبع من ذاته هو، كفضاء ومقهى تاريخي يُرمّم شروخ وذاكرة سكّان مدينة الدارالبيضاء، وإنّما من مدى انعكاس صورة العمارة الأوروبية عليه وجعلها تستحوذ على شكله وموقعه في مُلتقى شارع محمّد الخامس وساحة الأمم المُتّحدة.

المساهمون