للموسيقى غايات عليا، تتمثل في تحقيق الوحدة، والتعايش، والسلام، وإزالة الحواجز، وكسر الخوف، واحترام الاختلاف. هذه هي الخبرة النهائية التي حصلها عازف الغيتار الأميركي، المكسيكي الأصل، كارلوس سانتانا (1947)، بعد رحلة فنية اقتربت من ستة عقود، شهد العالم خلالها كثيراً من التقلبات السياسية والاجتماعية، والحركات الثورية والتحررية، التي كان لها تأثير عميق ومتراكم في قلب سانتانا وعقله، وطريقة تفكيره ونظرته إلى السياسة الأميركية، ودعمه المستمر للمهمشين والضعفاء في العالم.
بعد أيام يبلغ العازف المخضرم الذي حصل على عشر جوائز غرامي عامه السادس والسبعين. أمسك الغيتار للمرة الأولى وهو ابن ثماني سنوات، ولم يتركه حتى اليوم. وعندما سقط مغشياً عليه أثناء عزفه في حفل في ولاية ميتشيغان الأميركية، العام الماضي، ونقل من المسرح إلى المستشفى، لم يلبث أن عاد ليطمئن جمهوره ويبشره بعودة قريبة.
قبل أن يكمل 12 عاما، وصل سانتانا مع أسرته إلى تيخوانا، المدينة الواقعة على حدود المكسيك مع كاليفورنيا، ثم بقي في سان فرانسيسكو، وانتظم في السلك التعليمي، إلى أن قُبل من جامعة نورثريدج في ولاية كاليفورنيا، وأيضاً من جامعة ولاية هومبولت، لكنه كان قد قرر مبكراً ألا يلتحق بالجامعة، وألا يقبل بأي شيء يؤثر على مساره الفني مع الغيتار. هذا السلوك يعطي دلالة واضحة حول رؤية سانتانا لنفسه، وطموحه الكبير، ودوره الفني المنتظر.
بدأ خطواته الأولى نحو الشهرة في أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي، مع الفرقة التي أسسها وحملت اسمه "سانتانا"، وكانت رائدة في اندماج موسيقى الروك في موسيقى أميركا اللاتينية، من خلال مقطوعات الغيتار، القائمة على الإيقاعات اللاتينية والأفريقية، لا سيما تلك التي لم تكن شائعة في موسيقى الروك. استمر سانتانا في العمل بهذه الأشكال الموسيقية لعقود متتالية، محققاً نجاحات كبيرة وقفزات متتالية، وارتفع جبل الجوائز التي يحصدها. وفي عام 2003، أدرجت مجلة رولينغ ستون سانتانا في المرتبة 20 على قائمتها لأعظم 100 عازف غيتار في كل العصور.
يرى كثير من النقاد الذين رصدوا مسيرة سانتانا مطولاً أن حقبة الستينيات وما شهدته من "ثورات ضمائرية"، مثلت مناخاً فنياً مناسباً للاتجاهات الموسيقية التي تميل إلى إبراز التنوع الفني، والتحرر من هيمنة الأنماط الغربية. تأثر سانتانا بحركة المهاتما غاندي، ومالوكم إكس، ومارتن لوثر كينغ، وتشي غيفارا والأم تيريزا. وأيضا تأثر بفنانين شهيرين، مثل بي بي كينغ، وتي بون ووكر، وجون لي هوكر. التقت كل هذه المؤثرات، وأنتجت عازفاً يقاتل من أجل السلام بسلاح وحيد هو الغيتار.
في صباه، انضم سانتانا إلى الفرق الموسيقية المحلية، وكانت لافتة قدرته على إضافة بصمة شخصية على موسيقى الروك آند رول بنمطها الخمسيناتي. وبدأ في التعرف إلى حزمة من التأثيرات الموسيقية الجديدة، بما في ذلك موسيقى الجاز والموسيقى الشعبية، وشهد حركة الهيبيز المتصاعدة التي تركزت في سان فرانسيسكو. اضطرته الظروف المعيشية إلى العمل بغسل الأطباق كي يزيد دخله، وفي أقرب فرصة، قرر التفرغ التام للموسيقى.
يتذكر سانتانا أن سلسلة من المصادفات التي وقعت جميعها في أحد أيام عام 1966، كانت السبب الرئيس لوضعه على طريق الشهرة. ذهب الشاب إلى قاعة فيلمور ليحضر عرضاً موسيقياً سيقدمه المغني وعازف الغيتار بول باترفيلد، الذي تغيب عن الحفل، ليقوم الموسيقي والعازف الشهير بيل غراهام بتجميع فرقة مرتجلة من الموسيقيين الذين عرفهم، بسبب علاقاته ببعض الفرق المعروفة، ويقترح عليه ستان مارك، مدير الصالة، أن يضم سانتانا فوراً إلى الفرقة، فيوافق. وخلال فقرة العزف المنفرد على الغيتار، جذب سانتانا انتباه الجمهور، وانبهر به غراهام. في العام نفسه، تشكلت فرقة سانتانا بلوز، التي مثلت مرحلة تمهيدية لميلاد فرقة سانتانا الأساسية، مع زملائه من موسيقيي الشوارع، وتميزت بمزيج من موسيقى الروك والجاز والبلوز والإيقاعات الأفريقية.
توج نجاح الفرقة المبكر بأداء لا يُنسى في مهرجان وودستوك الموسيقي عام 1969، وهو ما كان سبباً لتوقيع عقد مع شركة كولومبيا للتسجيلات، وإصدار الألبوم الأول. وبعد عدة أشهر، صدر الألبوم الثاني، الذي كان سبباً لمراجعات وتغييرات جوهرية بالفرقة، بلغت حد استبعاد عازف الدرامز بوب ليفينغستون، ليحل محله مايك شريف صاحب الخلفية الكبيرة في موسيقى الجاز، وعزف موسيقى الروك.
وفي أغسطس/ آب من العام نفسه، أصدرت الفرقة ألبومها الذي يحمل اسمها "سانتانا"، ليحقق نجاحاً استثنائياً، ويصل إلى المرتبة الرابعة على قوائم الأغنيات الأميركية. لكن هذا النجاح الكبير شكل ضغطاً على الفرقة لتقديم الاتجاهات الموسيقية المختلفة. مجموعة العازفين أرادوا إظهار موسيقى الروك باعتبارها الأساس الذي قامت عليه الفرقة، لكن سانتانا كان مهتماً بشكل متزايد بتجاوز حبه للروك والبلوز، وأراد إيضاح العناصر التي تنتمي إلى الجاز، ما شكل مبرراً فنياً ومنطقياً لابتعاد كثير من عازفي الفرقة.
ثم جاءت المحطة الكبيرة الثانية في سبتمبر/أيلول 1970، حين صدر الألبوم الثاني الذي حمل عنوان Abraxas، واستقبل بحفاوة جماهيرية، وأظهر نضجاً وصقلاً يتجاوز الألبوم الأول. تميز هذا الإصدار بأغنيتين من أكثر أغاني الفرقة شهرة وانتشاراً "فتى كوموفا"، و"امرأة السحر الأسود". بقي الألبوم لمدة ستة أسابيع في المركز الأول على قوائم بيلبورد، واستمر على القوائم الشهيرة 88 أسبوعاً، وحصل على الشهادة البلاتينية في عام 1986. وفي عام 2003، احتل المرتبة 205 على قائمة مجلة رولينغ ستون لأعظم 500 ألبوم على الإطلاق. إصدار ظل يحصد النجاح والجوائز لأكثر من أربعة عقود.
رسخ هذا النجاح مكانة سانتانا وفرقته محليا وعالميا، وواصل الرجل رحلته. في عام 1971، انضم الشاب المراهق نيل شون إلى الفرقة، التي كانت أول طريقه إلى الشهرة الكبيرة في عالم الغناء والعزف على الغيتار. التقطه سانتانا وعمره 17 عاماً فقط. كانت الأجواء مواتية لإصدار الألبوم الثالث "سانتانا 3"، وكان النجاح مدوياً. باع الألبوم مليون نسخة.
خلال جلسات الاستديو لإعداد الألبوم الرابع في أوائل عام 1972، جلب سانتانا ومايكل شريف موسيقيين آخرين، للإيقاع: جيمس مينغو لويس، وخبير موسيقى الجاز اللاتيني أرماندو بيرازا، وعلى الكي بورد ويندي هاس وتوم كوستر، ومع التدفق المقلق للعازفين الجدد في الاستديو، قرر عضوا الفرقة غريغ رولي ونيل شون أن الوقت قد حان للمغادرة بعد إعداد الإصدار. حقق الألبوم مرتبة بلاتينية.
يرى سانتانا أن ظروفه المكانية والزمانية لعبت دوراً كبيراً في حياته. يقول: "لقد ولدت في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب، وشعرت أنني نهر متدفق بالاحتمالات والفرص التي ستحملني دائما إلى تجاوز ما تقدمه الفرق التي أعرفها". وبالرغم من أصله المكسيكي، وحمله الجنسية الأميركية، إلا أن الرجل يميل بشدة إلى رد الموسيقى التي يعزفها إلى القارة الأفريقية.
يقول: "إن هذه الإيقاعات التي تنسب إلى الكاريبي أو التي توصف بالموسيقى الاستوائية، هي في حقيقتها صادرة كلها عن أفريقيا. ما أعزفه هو إيقاعات أفريقية، وكل ما أحبه من الموسيقى جاء من أفريقيا.. حينما أذهب إلى أفريقيا يزعمون أنني لست سائحاً". يؤكد الرجل أنه لا يحصر انتماءه في الأصول اللاتينية، يضع نفسه في إطار عالمي، وعندما يذهب إلى باكستان أو إسطنبول أو ماليزيا، يخاطب الجماهير قائلاً: "نحن جميعا من عائلة واحدة".
في عام 1998، أنشأ سانتانا مؤسسة Milagro لدعم الأطفال والشباب ناقصي التمثيل في مجالات الفنون والتعليم والصحة. وخلال العقدين الأخيرين، أبدى اهتماما كبيرا بالدعوة إلى "الروحانية" وتجاوز الحياة المادية. وقد أثار جدلا كبيرا عام 2009 عندما دعا إلى إباحة الماريوانا، لكنه أوضح أنه يريد أن يكون الابتعاد عن المخدرات من خلال الاستمتاع بنشوة خدمة البشرية. يقول: "إذا تمكنا من أن نعلم في المدارس النشوة المتأتية عن خدمة الناس، كما هو الحال مع الأم تيريزا أو ديزموند توتو أو الدالاي لاما، فعندئذ ستخف جاذبية تدخين الماريوانا أو شرب التاكيلا أو مشاهدة الأفلام الإباحية".
في لقاءاته التلفزيونية، يقدم الرجل خطابا إنسانيا أقرب إلى حالة صوفية تتجاوز الواقع المادي وتنحاز إلى البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم، لا سيما هؤلاء الذين أنهكهم الفقر أو الصراع. بعد ستين عاما من العزف، خلص إلى أن هذه هي رسالة الموسيقى، لكنه أثبت أيضاً أن التقدم في العمر لا يعني التخلي عن الرسالة الفنية، وأن أوتار الغيتار لا تتأثر بشيب الرأس.