في الظاهر، تبدو تجربة مُشاهَدة أول فيلم متشابهة، إلى حدّ كبير، عند غالبية مَن ولدوا في عصر السينما. تسمع منهم الحكاية نفسها: دخلتُ السينما أول مرة وأنا طفل، وانبهرتُ بما رأيتُه على الشاشة. التنويعات كثيرة على التجربة الأولى، لكنّها قليلاً ما تخرج عن ذاك السياق العادي. الخروج عن عاديّتها وَصَم مُشاهدتي أول فيلم.
قبل دخولي المدرسة، وكبقية أبناء "فضوة قرة شعبان"، الزقاق البغدادي الذي نشأتُ فيه، كان حلول العيد فرصتنا الوحيدة للخروج مع الأصدقاء إلى ساحات الملاهي، القريبة من السكن، والمُقامة على عجل. مع ابن خالي عماد الذي يصغرني بسنتين ذهبتُ إلى "ملاعيب" شارع شيخ عمر، المُركبة قرب منطقة صناعية. جرّبنا صعود كلّ "المراجيح". على مقربة منها، رأينا شاباً يأخذ من الأطفال الذين سبقونا إليه مبلغاً بسيطاً، يسمح لهم بدخول المحلّ. على جدرانه الخارجية، عُلّقت "أفيشات" ملوّنة، وإلى جوارها رأينا صورة له بحجم كبير، يظهر فيها مرتدياً زيّ رعاة البقر. لم نلتفت كثيراً إليها. دفعنا أجور الدخول، عشرة فلوس، ودخلنا.
7 ـ 8 كراسي شغلت كلّ مساحة المحلّ الصغير، فيما خَصّص المتبقّي منه لمنضدةٍ صغيرة، وضع فوقها آلة غريبة الشكل. وقف خلفها بعد إغلاقه باب المحل، ومصباحه الوحيد، ومن دون أنْ يعلن عن بدء العرض، ظهر من الظلام ـ على القماشة البيضاء المثبتة على الحائط ـ رجلٌ يمتطي حصاناً، وهو يقترب شيئاً فشيئاً منا. بعد برهة، اتّضحت ملامحه: إنه الشاب نفسه الذي يُشغِّل الجهاز، بالزيّ نفسه الذي ظهر عليه في الصورة، حاملاً مُسدساً بيده، ومُعتمراً قبعة جلدية على رأسه. التفت عماد إليّ متعجّباً: "هذا هو نفسه". بعد لحظات، بدأت تظهر على الشاشة مقاطع متفرّقة، سريعة الحركة، لا سياق يوحّدها. راعي بقر يطارد هنوداً حمراً. يليه مشهد سيارة تنزل منها فتاة جميلة، وتدخل فندقاً يُقيم حفلاً راقصاً باهراً. بعده، تظهر مركبة فضاء يقودها رجال، مظهرهم غريب لا يشبه البشر. طال العرض دقائق، وطُلب منّا الخروج بعد توقّفه.
في الطريق إلى البيت، كنتُ أفكّر بما شاهدت، وأسال نفسي: من أين أتى بالحصان، وكيف دخل معه إلى الشاشة؟ توصّلت بعدها إلى قناعة أكيدة: الأشخاص جميعهم الذين رأيتهم على الشاشة يومها، سأراهم ثانية واقفين قرب آلة العرض، كما العراقي، في العيد المقبل.
بعد نحو شهرين، وفي العيد الكبير، ذهبنا إلى المكان نفسه. لم نجد الشاب. اختفى، وأبقى أسئلتي معلّقة: إلى أين ذهب؟ هل أخذ بقية من رأيتهم على الشاشة معه؟ بعد أعياد قليلة، امتدّت خطواتنا إلى أبعد من ساحات الملاهي. دخلنا المدينة من "الباب الشرقي"، وجرّبنا دخول صالات عرضها الكثيرة.
بغداد مدينة سينمات كانت. أول ما اكتشفتُه فيها أنّ المَشاهِد المتفرّقة التي عرضها علينا "راعي البقر" كانت في الأصل "تريلرات" أفلامٍ غربية، وأنّ ممثّليها لن يظهروا أمامنا بـ"دمهم ولحمهم" قط، كما فعل هو. ليست المتعة وحدها أدمَنَتني على مشاهدة الأفلام، في أعوام طفولتي ومراهقتي، بل الحرية التي رافقتها.
بالنسبة إليّ، كان الذهاب إلى السينما يلازمه دائماً شعورٌ بالحرية، وانعتاقٌ مؤقّت من أَسْر العائلة. يمنحك قرار ذهابك لوحدك، أو بصحبة أصدقاء في عمرك نفسه، لمشاهدة فيلمٍ ما، شعوراً بنضوج مبكر. سيزداد هذا الشعور كلّما تقدّمنا في السنّ. ومع تنوّع الأفلام التي نشاهدها، نتأكّد أنّنا نكسب معارف جديدة، ونفتح أعيننا على عوالم أخرى، أكبر بكثير من مساحة وجودنا الجغرافي المحدود. ليس مع الفيلم وحده يتولّد هذا الشعور، بل كان يلازمني كلّ يوم خميس، وأنا خارج من مدرسة "القبس" الابتدائية في قنبر علي، مُتوجّهاً مباشرة إلى محل بيع القرطاسية، لأشتري منه مجلة "سوبرمان" المصوّرة.
بين حبّ القراءة، والذهاب بعيداً في الخيال مع الفيلم، توزّع اهتمامي. مع الوقت، اكتشفتُ الفوارق بينهما. الصورة الملوّنة في المجلة مُحفّزة لتواصل وتصوّر أبعد منها. الحوار فيها صامت. وأنتَ تقرأه، تسمع صوتك الداخلي لا غير. في الفيلم، الحوار والصوت مسموعان. حركة الصورة قرينة حدث درامي يشدّك إليه، ويُثير فيك انفعالاً يفضي إلى أسئلة عن الوجود، وعن أشياء جديدة لم تعرفها من قبل. كلّ فيلمٍ يحمل معه أسئلته، ويستقدم عوالمه إليك. هكذا وجدتُ نفسي منحازاً إليه على حساب "سوبرمان"، من دون أنْ أتركه، لأنّه ـ في مراهقتي ـ كان واحداً من أجمل متع الحياة.
في المرات التي أتأمّل فيها مسارات حياتي، أنسب بعض الفضل فيما اخترتُ أنْ أكونه فيها إلى السينما. مشاهدة الأفلام، وتراكم أسئلتها ومعارفها، أسهما في تشكيل بداية وعي، إلى جانب مؤثّرات كثيرة أخرى طبعاً. عدوى الانتماء السياسي للعائلة تنتقل إليك، إلى جانب متراكمات اجتماعية وثقافية أخرى، تتسرّب إلى دواخلك من دون أنْ تشعر بها.
في نهاية ستينيات القرن الـ20 وبداية سبعينياته، بدا المناخ السياسي العراقي هادئاً، في الظاهر. بعد "انقلاب شباط 63" الدموي، عاد البعثيون إلى السلطة مجدّداً، عام 1968، وأرادوا أنْ يوحوا للعالم بأنّهم اختلفوا عما كانوا عليه في ذلك العهد. سوء سمعتهم أجبرهم على إبداء الليونة. كانوا يُبيّتون مخطّطاً جهنمياً، يتطلّب ذلك. تركوا عروض الأفلام كما كانت عليه تقريباً. إلى جانب الهوليوودية منها، كانت تعرض في بغداد أفلامٌ "تقدّمية" المضمون، يتّسم بعضها بنوع من الإعلان السياسي اليساري، توافقاً مع ما أرادوا الإيهام به من انحياز إلى هذه الوجهة.
من دون اتفاق، مال شبابٌ عراقيون إلى عروض سينما غرناطة التي كادت تختصّ بعرض الأفلام الجيّدة، غير التجارية. لم يقتصر الأمر عليها وحدها. كانت بعض الصالات الأخرى تقدّم أيضاً أفلاماً بالمستوى نفسه، لكنْ بشكل متباعد. في هذه الفترة، تعرّف روّاد الصالات للمرة الأولى تقريباً إلى سينما فرنسية جديدة، وأخرى أوروبية، لم تجد لها من قبل مساحة عرض مناسبة. فترة استُقدمت فيها أفلامٌ سوفييتية كثيرة، غير تلك التقليدية، المنشغلة بتجسيد مآثرهم في الحرب العالمية الثانية، كرائعة إميل لوتينو "الغجر يصعدون إلى السماء"، المُقتبس من قصّة للكاتب مكسيم غوركي.
يظلّ صدى أفلامٍ، كـ"زد" لكوستا غافراس و"إنّهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" لسيدني بولاك، يرنّ طويلاً في الأذهان، كما يبقى "إلى أستاذي مع أطيب التحيات" ـ هكذا تُرجم، على ما أتذكّر، فيلم To Sir with Love لجيمس كْلافِل ـ أثره قوياً عليّ. قبل مشاهدته، لم أعرف الكثير عن ظاهرة العنصرية الغربية، ولم أرَها مُجسدة سينمائياً بأداء تمثيلي مذهل (تمثيل سيدني بواتييه). علّمني ذلك الفيلم كيف يقرأ صُنّاع السينما الغربيون مجتمعاتهم نقدياً، وكيف تُشكّل أفلامهم عند محبّيها في بغداد ذائقة جمالية، تدفعهم ـ من دون اتفاق مسبق بينهم ـ إلى وجهة سياسية.
أفلامٌ تصم الذاهبين إلى مشاهدتها بـ"المثقّفين"، لتمييزهم عن عامةٍ أكبر. لاحقاً، سيخلق هؤلاء حراكاً يسارياً عراقياً شاباً، يتكامل مع مَدّ سياسي عريق. شباب يعاندون ما كان يخطّط له البعثيون في الحقل الثقافي. التجربة الشخصية تفضح مخططهم. بعد انتهاء مرحلة الدراسة المتوسّطة، قرّرت دراسة السينما في معهد الفنون الجميلة. ظهر لي، من بين الأمور الحاسمة للقبول من عدمه، شرط الانتماء إلى أحد روافد حزب البعث، "الاتحاد الوطني لطلبة العراق". محاولة إبعاد غير البعثيين قدر الإمكان عن الدراسة في بعض الكليات والمعاهد، ومنها خاصة تلك المعنيّة بتدريس الفنون، تترك أثرها السيئ على كلّ مناحي الحياة الثقافية، خاصة المتعلّقة بالسينما وصناعة الأفلام. كما تترك سياسة البعث آثارها المدمّرة على العراق كلّه، وتُجبره على الانحسار والتراجع سنين طويلة.
من بعيد، كنا نحن المنفيّين نراقب ذلك الخراب ونتألّم. حتّى بعد نهاية النظام، ظلّت أسئلة السينما مُعلّقة، لا تُجيب عنها المحاولات الجادّة الجديدة، المُكتفية بصدقها. السؤال عن الفيلم الأول وتأثيراته لا ينفصل عن مُتراكمٍ شخصيّ، غير قابل للتعميم. به نستعين لتفسير خياراتنا للعمل في حقل الكتابة النقدية، أو غيرها. المُتراكم لا يزول، بل يزدهر كلّما توفّر المناخ المناسب له. هذا أستطيع تأكيده بالتجربة الشخصية. لكنْ، في غياب الفرص الحقيقية، الحاصل في بلدنا، مواهب كثيرة تذوي وتختفي، كما اختفى صانع مشهد "راعي البقر"، القادم من بعيد، إلى الأبد. تُرى، لو توفّرت له فرصة مناسبة، أما كان بإمكانه أنْ يصبح سينمائياً جيداً؟ خَطر هذا السؤال في بالي، وأنا أشاهد "ذا فايبلمانز"، جديد ستيفن سبيلبرغ، عشية طرح سؤال "أول فيلم شاهدتُه وأثّر فيّ".