"قفزة إلى العظمة"... أميركا بوصفها شركة تصنيع أحذية

18 يوليو 2023
أخرج العمل بن أفليك (IMDb)
+ الخط -

"يمكن للمال شراء كُل شيء، لكن لا يمكنه شراء الخلود". قد تبدو هذه العبارة واحدة من تلك المقولات التي يكثر طرحها في أفلام هوليوود المتمحورة حول قصص نجاح. فبفضل وقعها الخطابي هي كفيلة بتغيير مسار قصة فيلم أميركي، وهذا ما حدث بالفعل مع فيلم بن أفليك الأخير Air (قفزة إلى العظمة) الصادر عام 2023.

يتحدث Air عن كفاح موظف المبيعات في شركة الأحذية والألبسة الرياضية نايكي، سوني فاكارو (مات ديمون) لإنقاذ قسم كرة السلة من الإغلاق، وذلك بإقناع لاعب كرة السلة مايكل جوردان بارتداء حذاء نايكي مسجل باسمه: Air Jordan. لم يكن نجم جوردان الشاب قد سطع حينها، لكن فاكارو تنبأ له بنجاح مبهر وقاعدة جماهيرية كبيرة، من شأنها أن تضفي شعبية على الحذاء، وتحول علامته التجارية إلى جزء من الثقافة الشعبية المعاصرة حينها. بنى فاكارو على هذه النبوءة خطته التسويقية. وكمراهنة على الحصان الرابح، قامر بميزانية مخصصة لثلاثة لاعبين مقابل لاعب واحد.

القصة لا تتمحور حول مايكل جوردان نفسه، وليست سيرة ذاتية عنه، بل سيرة الحذاء الذي ينتعله، والذي سيقفز به نحو العظمة، ليتحول معه من لاعب جامعي إلى أسطورة في كرة السلة. نجاح جوردان في الفيلم يقدم على خلفية الحذاء وصناعه والمروجين له. بن أفليك يقدم لنا حكاية عن كواليس عالم الرياضة وأهميتها، والجنود المجهولين القابعين خلفها.

كثيراً ما تركز الأفلام الرياضية على حياة الرياضيين، إلا أن أفليك قاوم جاذبية شخصية جوردان مستعيضاً عن إدراج شخصيته في الفيلم بحضور معنوي له، كهدف بعيد المنال. وعلى الرغم من الخيار الفني الذي لجأ أفليك إليه، فإنه يمكن أن نكشف مراحل بروزه كأيقونة رياضية، لا سيما مع ربط شخصيته بالحذاء الذي حمل اسمه. إذ لا تظهر شخصية جوردان في الفيلم باستثناء اللقطات التي تصوره من الخلف، ولا تقدم مشاهد من الملاعب باستثناء القليل من اللقطات الأرشيفية. في المقابل، كان الدور الأكبر لوالدة جوردان دولاريس (فيولا ديفيس)، إذ استطاعت أن تعدل رأي ابنها الرافض بشكل قاطع التعاون مع "نايكي" مفضلاً "أديداس" عليها. اشترطت دولاريس على "نايكي" أن يتم قبول العرض مقابل منح ابنها نسبة من الربح على كل حذاء يباع من Air Jordan. وبهذا، قلبت هذه الصفقة موازين الصفقات الرياضية في العالم، وهنا تحديداً تكمن أهميتها.

على الصعيد المؤسساتي، يغوص الفيلم في خفايا عمل الشركات التي تنتج سلعاً للجمهور بهدف الربح المادي فقط. يعرض الحالة التنافسية بينها وبين الأخرى التي تحكم السوق، وهوس حصد الأموال. أما بالنسبة لفاكارو، فيعتبر الفيلم قصة نجاح فردية. تطغى فكرة الحلم الأميركي على قصة الفيلم. إيمان فاكارو بفكرته وسعيه نحوها يرسخان المفاهيم التي لطالما تضمنتها سينما هوليوود. شركة نايكي في الفيلم كما أميركا كلها: هناك مساواة وعدل وتعدد فرص. عن طريق هذه الشعارات استطاع فاكارو إتمام صفقته. يحتفي الفيلم، بشكل أو بآخر، بالقيم الرأسمالية وتكريس الانتماء الوظيفي، جاعلاً من رحلة نجاح الموظف جزءاً لا يتجزأ من نجاح مؤسسته.

وضع المخرج بن أفليك والكاتب أليكس كونفيري نفسيهما أمام تحدٍ صعب، حين اختارا واقعة حقيقية معروفة لدى الجمهور الأميركي، لإعادة تقديمها في قالب قصصي، وصبغ الدراما عليها. وهذا ما أثبت أفليك، سواء كمخرج أم ككاتب سيناريو، أنه يجيد تقديمه. أما كونفيري، فهو إن صح القول واحد من نجوم العمل، إذ خرج في عمله الأول هذا بحوارات رشيقة وطريفة. كثيرون يعلمون ما حدث، لكن الحرفية تكمن في سؤال كيف حصل هذا، ليخلق ما هو مثير للاهتمام حول كيفية نجاح الصفقة التي تعتبر من أشهر الصفقات الرياضية، لتأتي بعدها النتيجة المعروفة مسبقاً، لكن شكل تقديمها وإضفاء الإثارة في فيلم يحدث معظمه داخل قاعة اجتماعات ليس بالأمر السهل.

مع المشاهد الأولى من Air، يعود صناع العمل إلى فترة الثمانينيات. يعير أفليك اهتماماً بالغاً لظروف القصة الزمنية والمكانية. يفتتح فيلمه بلقطات من ذاكرة التلفزيون، لنرى لقطات أرشيفية منوعة، تظهر في إحداها الأميرة ديانا وأخرى الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وأيضاً المصارع هالك هوغان. كأنه يضع "نايكي" جنباً إلى جنب مع رموز تلك الحقبة. رسخ أفليك ومدير التصوير روبرت ريتشاردسون كل إمكانيات الصورة، لوضع المُشاهد في أجواء الثمانينيات.

بإمكاننا وصف Air بأنه عمل سينمائي مرصع بالنجوم، فضلاً عن أنه يشهد عودة لثنائية مات ديمون وبن أفليك المعهودة، والتي عرفت بتناغمها. الأداء التمثيلي في الفيلم يشاد به لما فيه من حيوية، كأن نجوم العمل وجدوا فيه فرصة لإبراز قدراتهم التمثيلية، هذا بطبيعة الحال يرجع لحسن إدارة الممثلين التي استطاع أفليك تحقيقها رغم حضوره أمام الكاميرا كممثل أيضاً، بدور فيل نايت المدير التنفيذي لـ"نايكي".

على الرغم مما ذكر آنفاً، فجوردان لم يشارك مباشرة في الفيلم، إلا أن أفليك استشاره عدة مرات للحصول على تفاصيل حول كيفية تصوير القصة بدقة. وفقاً لأفليك، كان لجوردان مطلبان وحيدان، هما أن تلعب فيولا ديفيس دور والدته، وأن يدرج صديقه القديم هوارد وايت في الفيلم. قناعة أفليك باستبعاد جوردان عن التمثيل في العمل أو تضمين شخصيته كامنة في احترام لسخاء إرثه، هذا الخيار الفني كان سبباً في توسيع القاعدة الجماهيرية للفيلم، وعدم حصر جمهوره بعشاق الرياضة.

المساهمون