في يوم المرأة... لنتحدّث عن سعد لمجرد

08 مارس 2023
تنتشر ثقافة لوم الضحية في الإعلام العربي (Getty)
+ الخط -

في اليوم العالمي للمرأة (ومختلف الأيام العالمية عموماً)، يُفترض بنا نحن الصحافيات والصحافيين أن "نجد زوايا مميزة وجديدة" لمقاربة هذه المناسبة. لذا عزيزي القارئ إليك المميز والجديد في هذا اليوم من عام 2023: سنتحدّث عن سعد لمجرد.

الآن وقد هدأ الجدل الذي تلا الحكم الفرنسي عليه بجرمي الاغتصاب والعنف، نعود بهدوء (كبير) وبغضب (هامشي) إلى القضية، ومنها إلى ثقافة الاغتصاب، والإفلات من العقاب.

لم تكن هبّة الدفاع عن سعد لمجرد، بعد صدور حكم يدينه، مفاجِئة. متوقعة بالحد الأدنى، ومنتظرة بارتجاليتها ووضوحها بالحد الأقصى: سندافع عنه حتى لو ثبتت جريمته. سندافع عن براءة نتوهمها، ونتوهم من خلالها أنّ كل مغتصب ينجو. سنقول إنه مستهدف لأنه مسلم، وعربي، ومغربي. سنتحدّث عن الاستعمار، وعن الانتقام من المغرب... ووسط زحمة الكلام هذه، سنذكّر بأنّ الضحية صعدت معه إلى الغرفة. جنت على نفسها. من يصعد مع رجل سكران وتحت تأثير المخدرات إلى غرفة لوحدهما؟ تستأهل. وهي أساساً ليست منّا. فرنسية أخرى، تسقط عربياً آخر. مؤامرة. مؤامرة.

لكن للأسف كل هذه الأصوات، المتهافتة والمتبارزة في الدفاع عن سعد لمجرد، لم تنجح لا في حشد دعم حقيقي له، ولا في استمرار السردية التي حاولت التسويق لها للحفاظ على صورة الفنان صاحب الوجه البريء، ومليارات المشاهدات.

ما علينا، لنترك سعد لمجرد في سجنه، ونوسع الدائرة قليلاً: كيف يدافع إنسان عن مغتصب؟ يبدو السؤال ساذجاً عموماً، خصوصاً أنك في حال سألت أياً من هؤلاء المدافعين، سينفي التهمة عن نفسه، ويربطها بتسييس القضايا، وتداخل الشخصي والعام فيها.

لكنّ خلف وضوح هذا السؤال عالماً كاملاً، يجعل من التعاطف مع المغتصبين فعلاً تلقائياً، منذ لحظة اتهامهم حتى لحظة الحكم عليهم، سواء كان المتهم شخصية عامة (فناناً، رياضياً، إعلامياً...) أو شاباً مجهولاً في مقتبل العمر.

كي لا يبقى الكلام في الهواء، لنقرأ معاً مجموعة من عناوين الصحافة العربية في تغطية قضايا اغتصاب: "مفاجأة في اغتصاب طالبة الطب بالهرم... عقد زواج عرفي يكشف تفاصيل الجريمة" (اليوم السابع)، "قصة خديجة تثير جدلاً جديداً... مدونون: هل ادّعت الاغتصاب؟ (أصوات مغاربية)، "فتاة ليل تخاف الاغتصاب" (مصراوي)، "نتائج صادمة... ماذا تفعل ملابس المرأة المثيرة في الرجل" (وكالة سبوتنيك بنسختها العربية).

وبين هذه التغطية وتلك، عبارات داخل التقارير عن "ضياع مستقبل المتهم الشاب"، وعن "ملابس الضحية"، و"العثور عليها وهي في حالة سكر شديد"... باقة كاملة من لوم الضحية، تجعل من فعل الاغتصاب نفسه، ردة فعل وليس جريمة. معالجة تطمئن القارئ إلى أنّ عالمه لا يزال على حاله، تغمره بالسكينة بعيداً عن أي تشويش ممكن. تحافظ على مجتمعه بالترتيب الذي اعتاده، بعيداً عن ضرورة اتخاذ قرار أخلاقي يربك له ثوابته.

بحسب مدوّنة "نحو وعي نسوي" تشير ثقافة الاغتصاب إلى "الميل لرؤية العنف وكراهية النساء كتعبير أو جزء من العادات والثقافة، وتبدأ بالاستخدام اليومي للغة العنف الجنسي في الثقافة العامة". كيف يحصل ذلك؟ من خلال التطبيع اليومي مع هذه الأفعال. ورافعة هذا التطبيع مسنودة دائماً بالإعلام والفنون، والكوميديا، الثقافة الشعبية البسيطة.

في دراسة نُشرت في عدد أغسطس/ آب 2018 في Quarterly Journal of Political Science حاول الباحثون دراسة طريقة تغطية وسائل الإعلام الإخبارية للاغتصاب في مختلف الولايات الأميركية، ووجدوا أنّ هناك علاقة وثيقة بين هذه التغطية وحالات الاعتداء الجنسي المتكررة "حيث تزدهر ثقافة الاغتصاب في الصحافة، ترتفع أعداد الجرائم الجنسية". طبعاً لم تشِر الدراسة إلى أنّ التغطية الإخبارية "تسبب" الاغتصاب، لكنها تعكس الأعراف المحلية والتعامل المجتمعي مع هذه الاعتداءات.

الآن، لننقل هذه الدراسة من الولايات المتحدة إلى العالم العربي، حيث يستند الإعلام إلى قوانين مخففة تحمي المغتصبين، وتقاليد وعادات تفضّل قتل النساء اللواتي يتعرضن للاغتصاب أو تزويجهن للمعتدي، بدل الدفاع عنهن، عندها نجد أنّ هستيريا الدفاع عن سعد لمجرد عادية، جزء من سيرورة عادية لأيام عادية في حياة النساء العربيات.

ولقضية سعد لمجرد أبعاد أخرى، تتجاوز قصة الفنان المغربي، نحو المشهد الفني العربي العام. المدافعون عن لمجرد، تحديداً من زملائه الفنانين والصحافيين، يعرفون ذلك جيداً، ويدركون أنّ ترك لمجرد لأنياب الشامتين يهدد منظومة فنية كاملة، بنيت حجراً حجراً منذ منتصف التسعينيات. وقتها أعيد تركيب المشهد الفني العربي، على قاعدة واحدة هي الفن النظيف، السينما بشكل خاص.

خلقت منذ تلك السنة صورة للفنان الذي يقدم فناً للأسرة، وجاءت شركة روتانا (تأسست في الثمانينيات، لكن عملها في الإنتاج الموسيقي بشكل كبير بدأ مطلع الألفية الجديدة) لتكمل هذا المشهد لكن موسيقياً مع احتكارها للفنانين العرب، وربطهم جميعاً بصورة واحدة محافظة و"نظيفة".

راكم الفنانون رصيدهم عند الجمهور انطلاقاً من هذه الصورة: فنانون للعائلة العربية، يغنون عن الحب والهجر والخيانة، والوطن، كل ذلك تحت مظلة واحدة، بلا أي مساحة للتجريب. وأمام الفن المحافظ هذا، حاولت شركات إنتاج مصرية ولبنانية بشكل خاص، تقديم نماذج أخرى، لكنها فشلت جميعها أمام إمبراطورية روتانا.

مع بداية العقد الثاني من الألفية، وبروز "الفن المستقل" مستنداً إلى الثورات العربية، بدأنا نتابع نماذج أخرى من الموسيقى والسينما. نماذج أكثر جرأة، تستقي شجاعتها من شجاعة جيل كامل في الشارع. وبدا للحظة أن سقوط الأنظمة يسقط أيضاً منظومة الفن التي احتكرت المشهد لأكثر من عقد: موسيقى الأندرغراوند (أو أياً كان اسمها الحالي)، والمهرجانات، والراب، والتراب، والموسيقى الإلكترونية. خلقت كلها مشهداً بديلاً واضحاً، يتحدث عن الجنس والحشيش، والحب، والجريمة، والحلال والحرام، من دون انتظار مباركة هذا المنتج ولا تلك النقابة.

وبين الجيلين حاولت شركات الإنتاج وفنانو الجيل الأول الحفاظ على وجودهم، وسط أزمة اقتصادية خانقة جعلت من عملية الإنتاج التقليدية مهمة متعبة ومرهقة. التفّ الفنانون حول الإنتاج السعودي مجدداً. الهيئة العامة للترفيه والمستشار تركي آل الشيخ تحديداً. أعاد فنانو ذلك الجيل لملمة ما تساقط من إمبراطوريتهم التي حكمت الغناء والتمثيل منذ التسعينيات، في محاولة لتجاوز الأزمة المالية والإنتاجية، وتغيّر ذائقة المستمعين الشباب.

وسط كل هذا التخبط، جاءت قضية سعد لمجرد، الفنان الشاب لكن صاحب التجربة "النظيفة". يقدّم ما يطلبه السوق، وعرف كيف يخرج من المغرب نحو السوق العربي والعالمي. قصة نجاح مبهرة، بموسيقى بوب عادية، وبصوت متوسط. التفّ حوله الجميع: إليسا وهيفا وهبي، وسعد رمضان، وصابر الرباعي، ومحمد رمضان، وزياد برجي... حتى وسط محاكمته، قدموا معه الأغاني وروجوا لها على اعتبار أنّ كل ما يحاك حول قضيته مجرد اتهامات عشوائية. وحتى بعد إدانته، واصلوا الدفاع عنه. إليسا نفسها قبل أيام قليلة قدّمت في حفل لها أغنيتهما المشتركة، وخلفها صورة كبيرة له.
لن تتحطم صورة الفن، لن يعاقَب فنان على جرم "أخلاقي"، لن يُسجَن مغتصب.

في كواليس عالم الفن، يعرف الجميع، ويتحدثون في مجالس خاصة عن التحرش والاغتصاب المنتشرين في الوسط الفني (العربي والعالمي)، عن ابتزاز فنانات جنسياً، وعن ضغوط تمارَس هنا وهناك. لكن لم يخرج أي من ذلك إلى العلن يوماً: ضرورات العمل يقولون. فكيف يعاقَب أكثرهم نجومية وشهرة؟ ألا تحمي النجومية صاحبها؟ لا.

باختصار وبهدوء، حزينة قصة سعد لمجرد. لكننا نعلم أنّ مستقبله لن يضيع، نعلم أنه بعد خروجه من السجن، سيعتلي المسرح منتصراً، سينتظره الآلاف، ومعهم فنانون ومنتجون وصحافيون، وستدور العجلة من جديد. لكن نحن نعلم، وهو يعلم، ومن سيرفعه على الأكتاف يعلم، أنّ سعد لمجرد مدان بجرم اغتصاب. وهذا ربما كافٍ للاحتفال في هذا اليوم، وفي أيام أخرى.

المساهمون