مسألتان اثنتان يُتوَقّف عندهما، مع شيوع نبأ رحيل الممثل اللبناني شوقي متى (3 أكتوبر/ تشرين الأول 2022): أناقةٌ، تبدو كأنّها متحدّرة من طبقة بورجوازية، يتكامل معها مَظهراً وحركةً ومسلكاً؛ وجرأةٌ تمثيلية، تنعكس في تأديته دور شاب مثليّ الجنس، في فيلمٍ مصري، يُنجزه سمير سيف عام 1977، بعنوان "قطّة على نار".
هذا لن يحول دون تنبّه إلى مسارٍ تمثيليّ، يصنعه متّى (مواليد 28 مارس/ آذار 1948) منذ سبعينيات القرن الـ20. عيشه تحوّلات في الاجتماع والثقافة والفنّ والاقتصاد، حاصلة كنتيجةٍ لحالةٍ يُدركها لبنان في ستينيات القرن الـ20، غير دافعٍ له إلى ارتباطٍ سينمائيّ وثيق بها، لانشغاله في نتاج لبناني يمزج، غالباً، التجاري بالاستهلاكي، رغم أنّ حضوره أمام الكاميرا يتشكّل من خلاصة أناقته البورجوازية، وتمكّنه من الإمساك بجوهر التمثيل، من دون تباهٍ أو تشاوف أو تصنّع، أي من دون شهوة نجومية استعراضية، تُحطِّم ذاك الجوهر، أحياناً، إنْ تتفلّت الشهوةُ من كلّ ضبط.
الأناقة، معطوفة على الجرأة، غير مانعةٍ انصرافه إلى اختبار أدوارٍ عدّة، بعضها يتناقض مع بعضها الآخر. فالشرير فيه مصبوغٌ بهيئة مترفّعةٍ عن قاع الإجرام والعنف، كأنّه منبثق من حاجةٍ إلى ترجمة الشرّ بلغةٍ أهدأ وأسلس. هذا يُحيل إلى اختلاف ملامح الشرير فيه، شكلاً وسلوكاً وأداءً، عن تلك التي يتفنّن اللبنانيان الراحلان ميشال تابت (1930 ـ 2021) تحديداً، وجوزف نانو (1935 ـ 2016) مثلاً، في ابتكارها، رغم فرقٍ واضحٍ في الترتيب الزمني لاشتغالات كلّ واحدٍ منهم، ورغم أنّ تابت ـ نانو يسبقان متى في الولادة والعمل، ويتفوّقان عليه في عدد الحلقات التلفزيونية. أما الرومانسيّ، فيُحوّل متّى بعض مفرداته التقليدية، تعبيراً ونطقاً وحركات، إلى محاولة دائمة لتمييزه، بمنحه نَفَساً يمزج بين بساطة بوح وشفافية تواصل.
اعتبار أناقته كأنّها متأتية من بورجوازية ما غير محسوم، ففي شوقي متّى ما يُحرّض على ارتكاب معصية التحليل، والاسترسال بانتقاء كلمات تعكس شيئاً من ترف الكتابة. فالكتابة في رحيله تحثّ على القول إنّ أناقته تلك خليطٌ من ثقافة طبقات اجتماعية ـ اقتصادية، كالبورجوازية والأرستقراطية والنبلاء، وهذا كلّه محصّن بتواضعه، وبعدم إتاحة الفرصة لتلك الأناقة كي تخرج عن طاعته، فتوقعه في مطبّ نجومية استعراضية، سيبقى منفضّاً عنها.
ولادته في عائلة ميسورة الحال، في أربعينيات القرن الـ20، عاملٌ أساسيّ في تمتّعه بنمطٍ تربوي يتلاءم وتلك الرفاهية، من دون أنْ تحتلّ الرفاهية سلوكاً حياتياً، فحضوره الأنيق، أمام الكاميرا وفي لقاءات عامّة، ممسوك بتواضع جميل، يُلمَس سريعاً، أو ربما يبرع متّى في تقديمه، مُتحايلاً على الجميع، كمن يُمارس لعبةً للتسلية، فيسمح لحسّه الأدائي بأنْ يُشيع حضوراً متواضعاً له. هذا مُحبَّبٌ، فمتّى متمكّنٌ من مزج الأداء بالحياة، لا بمعنى الخداع والكذب، بل بالاحتيال الساحر، وهذا بديعٌ أيضاً.
ولادته في أربعينيات القرن الـ20 تترافق وتأسيس الجمهورية اللبنانية الأولى، مع منح البلد استقلالاً عن الانتداب الفرنسي (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1943)، وإدخاله في مرحلةِ رفاهٍ اقتصادي اجتماعي، رغم تذبذبات سياسية وأمنية، بين حين وآخر. تلك المرحلة، الممتدّة إلى منتصف سبعينيات القرن نفسه، تسمح باشتغالات ثقافية وفنية ومالية كثيرة، فالعالم العربي مُقيم في اضطراباته وانقلاباته ومصائبه، وفلسطين تُحتَلّ (1948)، والضربات مؤلمة: مسوّدة حرب أهلية لبنانية (1958)، آثار نكسة 67 و"أيلول الأسود" (1970). هذا كلّه يترافق وغليان ثقافي ـ فنّي ـ اقتصادي، فالأموال العربية (الفلسطينية خاصة) تتدفّق على مصارف البلد، وقرارات التأميم المصري تدفع بالإنتاج السينمائي إلى بلد الأرز، الموصوف حينها بكونه "ديكوراً سينمائياً طبيعياً"، وبعض الإنتاج الغربي يجد فيه مساحات رحبة لالتقاط مشاهد، وتحقيق أفلام.
مناخٌ كهذا يعيشه شوقي متّى، فيُصرّ على مهنة التمثيل، التي يبدأها مطلع سبعينيات القرن الـ20، بعيداً عن "الانقلاب" السينمائي اللبناني على الـ"كومبينة" الإنتاجية المصرية في البلد. يختار أفلاماً تمزج التجاري بالاستهلاكي، وتمنح المُشاهد/ المُشاهدة اللبناني متعة وتسلية وصُوراً ملوّنة عن بيئات وحكايات، يتساوى فيها التشويق والعنف بالحيوية والشباب، ويتداخل فيها الحب والرومانسية بالعصابات والأشرار. وصف أفلامٍ له بالتجاريّة مُنصفٌ وواقعي، فالتجاريّ ضرورة، والنجاح الجماهيري يجعل أيَّ فيلمٍ، نخبوي (إنْ يتمكّن فيلمٌ نخبوي من تحقيق نجاح تجاري) أو غير نخبوي، تجارياً.
غير أنّ لشوقي متّى مشاركةً في انقلابٍ من نوع آخر، في قلب المنظومة السينمائية اللبنانية، المستمرّة في إنتاج أفلامٍ مختلفة، في أعوام الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). في "السينما المؤجّلة، أفلام الحرب الأهلية اللبنانية" (مؤسّسة الأبحاث العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1986)، يكتب الناقد والمخرج السينمائي اللبناني محمد سويد، في سرده حكاية "تواصل الإنتاج"، أنّ سمير الغصيني ("حسناء وعمالقة"، إنتاج وتمثيل شوقي متى، 1980)، ويوسف شرف الدين ("الممر الأخير"، 1981)، يتحمّلان "تبعات وضع صناعي رديء منذ ردح طويل"، مضيفاً أنّهما يمتلكان "إرثاً لا بُدّ من امتلاكه"، ولهذا ينظر كلاهما "إلى قيمة جهده المبذول إزاء تركة الآخرين، والآخرون معروفون" في نظرهما. "فالمصريون مسؤولون عن إعطاء الإنتاج اللبناني اسمه وشهادة منشئه من دون التحلّي بشخصية وطنية صافية". بالنسبة إلى سويد، "اللغة، وتحديداً المحكية اللبنانية، بيت القصيد، لكنّ العامل البسيكولوجي يحتفظ بأهمية دوره" (ص 79).
هذا المقطع أساسيّ في فهم سيرة سينما لبنانية، يُشارك شوقي متّى فيها، تجهد في الخروج من نمطٍ يسيطر عليها طويلاً. "السينما البديلة"، المصنوعة عشية اندلاع تلك الحرب الأهلية، محاولة ثقافية وفكرية وإنتاجية لمواجهة ذاك الإرث، في حين أنّ الغصيني وشرف الدين وبعض مجايليهما يريدون "انقلاباً" على الإرث، من دون التخلّي عن مكوّناته، لكنْ بإخراجه من نَفَسِه المصري: "إلى ورثة التجهيزات التقنية البالية، هناك ردّة فعل الابن القاتلة تجاه الأب"، أي الإنتاج والإخراج: "المصريون الذين جاؤوا بمظهر الأستاذ، مُلقِّن أصول المهنة، واللبنانيون أبناء الأجيال السابقة والرائدة من المخرجين" (ص 79).
أول إنتاج يُحقّقه شوقي متّى سيكون لـ"حسناء وعمالقة"، مع مخرجٍ (الغصيني) يُحقّق أكبر عددٍ من الأفلام اللبنانية، كمحمد سلمان. إنتاجه الثاني سيكون مع الغصيني أيضاً، في "لعبة النساء" (1982)، علماً أنّ له مشاركة تمثيلية مع الغصيني أيضاً، في أحد أشهر الأفلام اللبنانية التجارية، "قطط شارع الحمرا" (1971)، الذي يُقدّمه ممثلاً شابّاً. مشكلة البلد كامنةٌ في غياب توثيق وأرشفة موثوق بهما، يُركَن إليهما لمعرفة مدى نجاح التجربتين، جماهيرياً ـ مالياً. "حسناء وعمالقة" ناجحٌ جماهيرياً، لكنّ "الممرّ الأخير" يتفوّق عليه في هذه الناحية، كما يكتب سويد. الأرقام غير محفوظة، لكن الحرب عاجزة عن إيقاف مسار العمل السينمائي، رغم عنفها ووحشيتها ومآسيها. تجربة شوقي متّى في مصر، وجرأة أدائه دور شاب مثليّ الجنس، لن تدفعاه إلى إكمال العمل خارج لبنان. الجرأة، الأهمّ والأعمق، اختباره الإنتاج في مرحلة بائسة، أمنياً واجتماعياً.
السيرة السينمائية لشوقي متّى تُذكّر بضرورة استعادة تاريخٍ غير مُوثّق كفايةً، وحكايات غير مُسجّلة كما يجب، وذكريات يُرجى أنْ تُدوَّن. اختبارات عدّة حاصلةٌ في فترات مختلفة، وغزارة إنتاج متنوّع الأشكال والمفاهيم والتفاصيل، تقول كلّها إنّ السينما في لبنان تحتاج إلى مزيدٍ من القراءات النقدية والتأريخية.