في رحيل خميّس الخياطي: شغفٌ يتفوّق على موتٍ

18 يونيو 2024
خميّس الخياطي: نصّ يعاين وصورة توثّق (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- خميس الخياطي يبرز كشخصية استثنائية في جيل النقاد العرب، متميزًا بنظرته الدقيقة للسينما العربية والأجنبية، مستفيدًا من خلفيته الأكاديمية وإقامته في باريس لتطوير فهم عميق للسينما معتمدًا على معارف في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية.
- لم يقتصر دوره على النقد السينمائي فقط بل أسهم بكتب وأبحاث ذات طابع أكاديمي، مؤمنًا بأهمية النقد في صناعة الفيلم وإثارة الحوار حول الأفلام والقضايا التي تطرحها لتعميق الفهم السينمائي.
- شغفه بالتصوير الفوتوغرافي كان جزءًا من حياته، معبرًا عنه من خلال التقاط صور تعكس تفاصيل الحياة اليومية، وتبقى أعماله شاهدًا على إسهامه في النقد السينمائي، مؤكدةً على أهمية المعرفة في فهم السينما والثقافة.

إذاً، هناك جيلٌ من النقّاد العرب يختفي تدريجياً. الباقون أحياء قلّة. هذا قدرٌ. من يعاين مساراً سينمائياً، عربياً وأجنبياً في آن واحد، منذ سنين مديدة، يبلغ مرحلةً عمرية تفرض عليه رحيلاً. كلُّ رحيل مؤلم لمن يودّع راحلاً. العمر غير مهمّ. الرحيل يصنع فراغاً، ولو صغيراً، لكنّه مزعج وغير أليف البتّة. الرحيل قدرٌ، وهذا لا مفرّ منه.

التونسي خميّس الخياطي (1946 ـ 2024) ناقدٌ منتمٍ إلى جيلٍ عربي قديم، تتسنّى لهما (الناقد والجيل معاً) معاينة دقيقة ودؤوبة لتبدّلات في صنع أفلام وكتابة نقدٍ، وفي تبدّلات ومنافع وتغيير وكشفٍ ونقاشٍ. دراسته الأكاديمية الأساسية المعقودةُ على علم الاجتماع، وإقامته في باريس أعواماً طويلة، في أزمنة تفكير ومواجهة وتمرّد وبحثٍ عن تجديد وتغيير في شؤون الحياة والفكر والعلاقات والقول، كافيتان لبلورة حسّ متقدّم (أقلّه بالنسبة إلى تلك المرحلة العربية، في خمسينيات القرن العشرين وما بعدها)، يلتزم تفكيراً بدل الاكتفاء بشعور، ويحثّ على تنقيبٍ وتفكيكٍ، لفهم (أكاد أقول لمحاولة فهم) المُنجز السينمائي، اللذين (الفهم ـ محاولة الفهم) يرتكزان على آداب وفنون ومعارف وعلوم إنسانية، كما على فكر سياسي وحسّ وطني ـ عربي، غير مكتفٍ بالمحليّ فقط، ففلسطين مثلاً غير بعيدةٍ روحياً وأخلاقياً وثقافياً، والجغرافية العربية مساحةٌ مفتوحة على اختباراتٍ، قبل انكسار كلّ شيءٍ، في اللاحق على تلك الفترة النابضة بأسئلة واشتغال.

خميّس الخياطي يكتب نقداً ويؤلّف كتباً، بعضها أبحاثٌ تميل إلى الأكاديمي من دون إسراف بمفرداته العلمية الحادّة، أو تنتقي من المفردات ما يُعِين على تبيان رأي وشعور يتناغمان في كتابة نصٍّ، يبغي أساساً حواراً مع صانع فيلمٍ ومسألة وحالة. والنص ذاك يريد تفعيل مقولةٍ يعتمدها نقّاد من أجيال لاحقة، رغم ندرتهم، ترتكز على أهمية أنْ يكون النص نفسه مشاركة فعلية في صُنع فيلمٍ، وفي إثارة مسألة ومناقشتها. رغم هذا، يُدرك الخياطي أنّ عملاً إذاعياً يختلف عن كتابة نصٍّ أو تأليف كتاب ـ بحثٍ، وأنّ المسؤولية الإعلامية ـ الصحافية في مؤسّسة أو مهرجانٍ تتطلّب شيئاً لا علاقة له بالنقد والفعل الأكاديمي.

في جانبٍ آخر منه، يبرز التصوير الفوتوغرافي في اهتماماته اليومية، فهذا شغفٌ عميقٌ فيه يجعله، في نزهةٍ على الأقدام مع أصدقاء وزملاء قليلين، في هذه المدينة الأوروبية أو تلك العربية، ينتبه إلى تفصيلٍ أو حالة أو شكلٍ أو معنى مخبّأ في زاوية أو حافة أو إطار، فيلتقط صُوراً بكاميرا تبدو كأنّها ملتصقةٌ بيديه الاثنتين، ومتأهبةٌ دائماً لتحقيق المبتغى منها: التقاط ما تراه عينه، وما تشعر به روحه، وما يكشفه تنبّهه.

أيكون سرد عناوين مؤلّفاته مهمّاً، في كتابةٍ تودّع ناقداً، يصعب اختزال سيرته المهنيّة لحظة رحيله، أو التوقّف عند مناصب وأعمال وتدريسٍ، أو هجرة وإقامة وعودة، أو ذكر مدى عشقه لصُور فوتوغرافية، بعضها لأفراد عائلته تكشف، بشفافية وحِرفية، عمقَ حبّ وبراعة مهنة؟ أيفيد قولٌ عن أنّ مؤلّفات له مرجع في سيرة سينما، وفي توثيق مراحل، وفي مواجهة تحدّيات في الاجتماع والفن والمعرفة؟

إنْ يكتب في الشأن السينمائي أساساً، فهو بارعٌ أيضاً في التسلّل إلى الشاشة الصغيرة، وإنْ بين حين وآخر، لمعاينة الحاصل، وكشف ما فيه من أحوال وأهوال. بهذا، يُثابر على تأكيدٍ، وإنْ ضمنياً، بأنّ الكتابة، المستندة إلى علمٍ ومعرفة ووعي وثقافة وتحرّر وصدق، تُصبح أقرب إلى وثيقةٍ يُركن إليها.

كتبٌ له أساسية في قلبٍ وعقل ومكتبة. تصفّح بعضها حاجة إلى إجابةٍ، وإنْ غير نهائية. ذكريات شخصية ماثلةٌ في ذاتٍ، رغم قلّتها. أمّا الرحيل، فرغم حتميّته، غير قادرٍ على تغييبٍ كامل.

المساهمون