في ذكرى نجاح سلام... غناء عن كلّ شيء

29 سبتمبر 2024
التزمت بالقضايا السياسية العربية (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- البداية والتألق في القاهرة: وصلت نجاح سلام إلى القاهرة عام 1948، حيث ساعدها والدها في التعرف على كبار الفن، وسرعان ما أصبحت من مطربات الصف الأول بفضل صوتها المميز.
- التنوع الفني والتميز الصوتي: تميز صوتها بصفاء وشخصية واضحة، وقدمت تنوعاً كبيراً في الغناء، شمل مختلف الأشكال والأنماط الجغرافية، وتعاونت مع كبار الملحنين في مصر ولبنان.
- الاهتمام بالغناء الديني والوطني: تأثرت بنشأتها في بيت علم شرعي، مما انعكس في اهتمامها بالغناء الديني والوطني، وغنت لمصر والقضايا العربية، خاصة القضية الفلسطينية.

حين جاءت نجاح سلام إلى القاهرة في عام 1948، لم تكن قد جاوزت 17 عاماً. لكن والدها، الأديب والملحن محيي الدين سلام، استطاع أن يرتب لها لقاءات مع كبار أهل الفن في العاصمة المصرية. وظّف الرجل صلاته الفنية، وعلاقات أسرته البيروتية العريقة في تعريف الأوساط الموسيقية بابنته.

بعد عام أو عامين، لم تعد الفتاة بحاجة إلى علاقات والدها، فقد أصبح صوتها جواز مرور يفتح لها الأبواب المغلقة، ويمهد لها الطريق أمام الشهرة، فلم يطل بها الوقت حتى صارت ضمن مطربات الصف الأول. لم يكن هذا الإنجاز سهلاً، لأن الوصول إلى تلك المكانة الفنية في هذا التوقيت كان أشبه باختيار فرد لشغل وظيفة تقدم إليها ألف غيره، كلهم يرى في نفسه المقدرة والاستحقاق. وصلت نجاح إلى القاهرة في عصر غنائي عنوانه أم كلثوم، ومفتاحه محمد عبد الوهاب، وقيادة فن التلحين فيه معقودة لمحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي.

وبعد هؤلاء القادة الكبار، يأتي صف أول رفيع، يضم محمود الشريف، وأحمد صدقي، وعبد العظيم محمد. كانت الإذاعة المصرية قد قطعت 14 عاماً بعد انطلاقتها، وكانت قد استقطبت عشرات من المطربين والمطربات، من أصحاب الأصوات بالغة الجمال. لم يكن من السهل على صوت عربي أن يقنع القاهرة بجدارته. كانت منافسة بالغة الصعوبة، وكان صوت نجاح مؤهلاً لخوضها.

لعل أهم ما ميز صوت نجاح سلام أن له شخصية واضحة، لا يلتبس بغيره، ولا يضيع وسط الزحام الفني. تميزه بحة تستلذها الأذن، كما يتميز بصفاء في درجاته المختلفة. فإذا انتقل الباحث من صوتها إلى المعالم المميزة لغنائها فإنه لا يجد الأمر سهلاً أمامه، لأن سلام نوعت في ما قدمته من غناء بدرجة لا تكاد تتوافر لمطربة عربية، سواء نظرنا إلى هذا التنوع من حيث الشكل، مثل: القصيدة والموشح والطقطوقة والمونولوج والموال والمحاورة، أو نظرنا إليه من حيث الجهة والجغرافيا: لبناني كما تعرفه بيروت، جبلي، بدوي، مصري، خليجي...، أو اهتممنا به من حيث الموضوع: عاطفي، وطني، ديني، وصفي، درامي.

في كل لون من هذه الألوان، قطعت سلام شوطاً كبيراً، لا مجرد مثال بأغنية هنا وأخرى هناك. كذلك فإن هذا التنوع جعلها صاحبة قائمة طويلة من الملحنين، ولا سيما من المصريين واللبنانيين. تكاد تكون قد تعاونت مع كل أعلام التلحين في البلدين، إذ كان صوتها دائماً مغرياً لهذا التعاون. لكن هذا الثراء والتنوع جعل من محاولة الإحاطة بمعالم مشروع غنائي خاص بها مسألة شبه مستحيلة. وهو ما عبّر عنه الناقد الموسيقي فادي العبدالله بقوله إن "صوت نجاح سلام العظيم يفوق أهميةً إرثها الخاص من الأغاني، رغم كثرتها وأهمية ملحنيها وجمالها ورسوخها في الآذان".

لكن مطالعة مسرد أعمال نجاح سلام يكشف عن بعض الجوانب التي قد لا تنكشف بالاستماع العشوائي لأعمالها. ومن ذلك أثر نشأتها واختياراتها السياسية في غنائها، أدائياً أو موضوعياً. نعم، تركت إرثاً كبيراً من الناحية الشكلية، إلا أنها منحت دوماً مساحة كبيرة لموضوعين أو جانبين: الدين، والوطن. ويمكن رد اهتمامها بالجانب الأول إلى نشأتها في بيت علم شرعي، إذ كان جدها الشيخ عبد الرحمن سلام مفتياً للبنان، وأستاذاً مرموقاً للغة العربية، فكان طبيعياً أن تكون الأسرة محافظة. وبالرغم من أن والدها كان ملحناً وعازفاً على العود ومديراً للإذاعة، إلا أن مسألة غناء "البنت" كانت محل نقاش، واجهته نجاح بالإصرار وبقوة الموهبة.

لم يخلُ الأمر من فوائد، فالتربية الدينية، وحفظ القرآن، وتعلم بعض أحكام التجويد، رفع من إتقانها لمخارج الحروف، وحسّن من طريقة لفظها بالكلمات، إلى درجة أن تحظى بإشادة المجمع اللغوي اللبناني. ثم انعكست هذه النشأة لاحقاً في صورة اهتمام كبير بالأعمال الغنائية الدينية، وبدرجة قد تكون غير معهودة بين المطربات من هذا المستوى.

أدّت سلام عشرات الأغاني الدينية، التي يمكن تصنيفها وفق موضوعات فرعية، مثل المديح النبوي، أو الابتهالات، أو شهر رمضان، الذي أدت له عديد الأغاني، منها "شهر الفضائل أقبل"، و"عيدك يا زمان أيام رمضان"، و"يا شهر الألفة"، و"يا ليت يا رمضان تمكث بيننا"، و"يا مرحباً شهر الهدى"، و"يا من عن الصوم أدبر"، و"أقبلت يا رمضان"، و"الصائمون والقائمون"، و"الصوم فلاح وعبادة".

لم تكن سلام تكتفي بعمل أو اثنين، حتى في الموضوعات الفرعية داخل الغناء الديني. يتجلى أثر البيئة في ابتهال يمكن اعتباره عملاً أُسرياً، فالكلمات من نظم الجد المفتي عبد الرحمن سلام، واللحن للوالد الموسيقار محيي الدين سلام: "برق تألق أم جمالك أسفرا.. أم نور وجهك لاح أم طيف سرى". وجاء اللحن كله إرسالاً بلا إيقاع، فحمل روح الابتهال الديني المشيخي، كما يسمع من المنشدين قبيل أذان الفجر.

وحين اعتذرت أم كلثوم لتلفزيون الكويت عن عدم تسجيلها قصائد "سلوا قلبي" و"ولد الهدى" و"نهج البردة" بسبب مرضها، رشح رياض السنباطي نجاح سلام لتسجيل القصائد. مثّل الأمر تحدياً كبيراً، واستطاعت سلام أن تؤدي القصائد بمستوى يرضي المستمع الذي اعتاد تلقي هذه الأعمال من كوكب الشرق. استلهمت نجاح أسلوب أم كلثوم، واستعانت بقدر من "التقليد"، لكنها فعلت هذا بدرجة عالية من الأناقة، ولم تتورّط في أساليب المحاكاة الكاريكاتورية. كان ترشيح السنباطي في محله، وفاز تلفزيون الكويت بثلاثة تسجيلات صارت من النفائس.

كانت للأسرة والتربية والبيئة المحيطة دورها العميق في اهتمام سلام بالغناء الديني، وبطريقة أدائها لهذا الغناء، لكن عند الانتقال إلى الغناء الوطني والقومي فإن الموقف السياسي سيصبح الدافع الأكبر وراء اهتمامها الاستثنائي بهذا اللون. مبكّراً، كان لسلام انحيازات سياسية واضحة، تمسكت بها، ودافعت عنها، ووظفت فنها وصوتها لخدمتها. آمنت سلام بالقومية العربية، وبالتوجهات الناصرية، وانصهرت تماماً في معارك مصر عبد الناصر، مثل تأميم القناة، وحرب عام 1956.

منذ ذلك التاريخ، وحتى توقفها عن الغناء بسبب الوهن وتقدم السن، لم تكفّ نجاح سلام عن الغناء لمصر، وللعروبة، وللبلدان العربية، ولقضايا العرب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وهي في هذا الميدان متفردة غاية التفرد، على الأقل من ناحية حجم الإنتاج.

تركت نجاح سلام رصيداً ضخماً من الغناء الوطني والعروبي، غنّت لموطنها لبنان، وللجزائر، وسورية، والعراق، واليمن، وفلسطين. لكن غناءها لمصر الناصرية شكّل الجانب الأهم في مسيرتها الفنية، وهي لم تنكر يوماً هذا الحب الجارف لمصر، ولعبد الناصر: غنت لثورة يوليو، وغنت للوحدة العربية، والوحدة بين مصر وسورية، وللجيش المصري.

يمكن اعتبار حرب 1956 اللحظة التي أسست بها نجاح سلام سمعتها الكبيرة في هذا الميدان. غنت لتأميم القناة، وغنت عن "المؤامرات" التي تحاك ضد مصر، وغنت عن العدوان الثلاثي، وغنت لمدينة بورسعيد، وغنت للشهادة والاستشهاد. كانت تذكر باعتزاز أن أول تعاون لها مع رياض السنباطي تمثل بقصيدة محمود حسن إسماعيل، "أنا النيل مقبرة للغزاة".

لكن كل هذه الأعمال -على جمالها- لم تنل المكانة الجماهيرية التي نالتها أغنية "يا أغلى اسم في الوجود" التي كتبها إسماعيل الحبروك، ولحنها محمد الموجي مواكبة لحرب السويس. حفظ الشعب المصري الأغنية. ردّدها الشباب والتلاميذ في المدارس، وبثتها الإذاعة والتلفزيون في جميع المناسبات الوطنية، وعند الفوز في مباريات كرة القدم. عاشت الأغنية قرابة سبعة عقود، من لحظة ميلادها عام 1956 إلى هذه اللحظة. لم يكن غريباً يوم رحلت نجاح سلام أن تتواطأ جميع الصحف والفضائيات والإذاعات والمواقع الصحفية المصرية على وصفها بـ"صاحبة يا أغلى اسم في الوجود".

وقد أصرت نجاح سلام على تبنّي المواقف القومية والعروبية علناً. وفي بعض مراحل عمرها، دفعت أثماناً باهظة لإصرارها و"عنادها". وبعد حرب 1967، أخذت الإذاعة اللبنانية تخفف من بثّ أغانيها، وبعد رحيل عبد الناصر تعرضت أعمال سلام لما يشبه المنع التام. ومن الوقائع المهمة التي يعرفها كثير من المحيطين بها، أنها تلقت خطاب تهديد بالقتل، قبيل حفل مرتقب في بيروت، إذا تغنت باسم عبد الناصر. وحاول أقاربها أن يثنوها عن "تهورها"، لكنها أصرت، إلى درجة أنها أبدت استعدادها لأن تموت في سبيل موقفها، ولم يكن أمام زوجها الفنان محمد سلمان إلا الاتصال برئيس الوزراء صائب سلام، وهو قريب لأسرة نجاح، وأخبره بموقفها، فأمر الرجل بإرسال الفرقة 16 الشرطية، التي انتشرت بين الجماهير وعلى المسرح حماية لنجاح.

وحين رحلت يوم 28 سبتمبر/أيلول من العام الماضي، نعاها العالم العربي كله، لمكانتها الكبيرة ومسيرتها الفنية الطويلة، ولاحترامها لفنها وثباتها على ما آمنت به. لكن بعد رحيلها بأيام، بدأ عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وانشغلت المنطقة بالأحداث الجسام، فلم تكن هناك فرصة لحفل تأبين، ولا حتى لبرامج تلفزيونية أو إذاعية تتفاعل مع غياب مطربة بهذا الوزن والتأثير.

لكن لم يخطر ببال أحد -حينها- أن تستمر الحرب عاماً كاملاً، وأن تحل الذكرى الأولى لرحيل سلام دون أن تهدأ المنطقة، ودون أن يلتقط العرب أنفاسهم، ليقفوا مع إرثها الفني الضخم وقفة لائقة. لكن الاحتفاء بالسيدة نجاح تحديداً يُعَدّ احتفاءً بقضايا العرب عموماً، وبقضية فلسطين على وجه الخصوص. مَن ينسى أداءها المؤثر لأغنية "الغضب"، أو انفعالها في "اخرج للعالم يا موسى"، أو تأثرها وهي تنادي: "يا قدسنا الحبيبة.. يا رمز للسلام.. يا غزتي وأريحا.. باعت لكم سلام"؟ لقد تركت إرثاً لا يغيب.

المساهمون