لا يزال اسم موليير يقترن منذ نحو 400 سنة بالـ"كوميدي فرانسيز" حتى بات بمثابة شفيعها، إلى درجة أن تسمية "دار موليير" تُطلق على المبنى الباريسي الشهير لأقدم فرقة مسرحية لا تزال ناشطة في العالم، ولو أن الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي لم يطأه يوماً. داخل هذا الصرح المرموق، ثمة قطعة أثاث تحظى بالتبجيل تتمثل في كرسي خشبي بذراعين معروض داخل خزانة زجاجية. فعلى هذا المقعد نازعَ جان باتيست بوكلان (وهو اسم موليير الأصلي) خلال عرض لمسرحيته الشهيرة "المريض بالوهم"، قبل أن يُسلم الروح لاحقاً في منزله.
وتشرح أمينة المحفوظات في الـ"كوميدي فرانسيز" أغات سانجوان، لوكالة "فرانس برس"، أن هذا الكرسي "هو نوعاً ما الشيء الوحيد الذي بقي" للمؤسسة من مسرحه. وتضيف أن للمقعد الذي بقي الممثلون يستخدمونه حتى عام 1879 "حضوراً قوياً إلى حدّ أنه يكاد يوحي أن موليير لا يزال جالساً فيه". وتتوزع في كل أرجاء المبنى تماثيل نصفية للكاتب المسرحي، يحرص الممثلون على لمسها أملاً في أن تأتيهم بالتوفيق وحُسن الطالع، وصور له أو لأعضاء من فرقته على غرار مدموازيل بوفال التي جسّدت شخصيات عدة من أبرزها زربينيت في مسرحية "مقالب سكابان".
وُلدت الـ"كوميدي فرانسيز" عام 1680، أي بعد سبع سنوات من وفاة الكاتب المسرحي، عندما قرر الملك لويس الرابع عشر الذي كان يوفر الحماية له، دمج فرقته بأخرى. وتنقلت الفرقة بين أربع صالات مسرحية قبل أن تستقر عروضها اعتباراً من عام 1799 في قاعة ريشيليو بالقرب من قصر "باليه رويال"، أي على مقربة من المنزل الذي توفي فيه موليير. وورد ذكر وفاة موليير في أهمّ وثيقة تملكها الـ"كوميدي فرانسيز" تُعرف بـ"سجلّ لاغرانج"، وهو مجموعة دفاتر تحمل اسم مساعد موليير لاغرانج (صاحب دور دوم جوان)، وفيها كان يوثّق أنشطة فرقة الكاتب.
وتحتفظ الدار في مكتبتها (ومتحفها) بهذا السجلّ وبقطع تذكارية أخرى، بينها قبّعة وساعة حُفر عليها اسم موليير. وتشير أمينة المحفوظات أغات سانجوان إلى أن أرشيف المؤسسة يبيّن أن "أي سنة لم تمرّ من دون أن تقدّم الـ(كوميدي فرانسيز) عروضاً لإحدى مسرحيات موليير". وتنتهج الـ"كوميدي فرانسيز" مبدأ مقدساً أرساه "شفيعها"، وهو التناوب، بحيث تقدّم كل ليلة عرضاً مختلفاً، مما يستلزم نشاط فرق العمل من الصباح إلى المساء، على اختلاف الاختصاصات، بطريقة المداورة.
ويؤكد مديرها العام الممثل إريك روف أنها "المسرح الأول في فرنسا"، فيما عدا دور الأوبرا "من حيث حجم النشاط"، إذ تضم "400 موظف في 70 اختصاصاً مهنياً، و60 ممثلاً". وفيما يعمل اختصاصيو الديكور والبناؤون في سارسيل بضواحي باريسي، يتخذ مصممو الأزياء والمنجّدون والعاملون في مجال الإضاءة والصوت ومختلف الجوانب الفنية وسواهم في المبنى المتعدد الطبقات الذي يضم قاعة ريشليو.
ويشغل قسم الأزياء وحدة أجزاء عدة من المقرّ، ويضم نحو 50 ألف قطعة. وتقول مديرة خدمات الملابس سيلفي لومبار "نصنع ما بين 50 و70 زياً لكل عمل مسرحي". ويُبرز كبير مصممي الأزياء ليونيل إرمويه الجانب "النفسي" لأولى عمليات قياس الملابس، إذ يُجري بعض الممثلين خلالها تسميع نصوصهم بطريقة ممسرحة، أي مرفقة بالحركات الملائمة.
يعود الفضل في استمرارية دار الـ"كوميدي فرانسيز" هذا الزمن الطويل إلى طريقة العمل، إذ إن الممثلين هم أبرز صانعي القرار. ويشرح روف الذي يشغل منصبه منذ عام 2014 أن "الفرقة أشبه بتعاونية ذاتية الإدارة، ولم يتغير ذلك منذ موليير". عندما ينضم ممثلون جدد إلى الفرقة، يوظفهم مسؤولو الإدارة بصيغة موقتة، لمدة سنة قابلة للتجديد. ثم يمكن أن تختارهم لجنة مكونة من سبعة ممثلين لتثبيتهم بصفة أعضاء دائمين. ولهذه اللجنة أيضاً القرار فيما يتعلق بزيادات الرواتب. وفي كانون الثاني/يناير 2021، أصبحت الممثلة الكبيرة دومينيك بلان العضو الدائم الرقم 538 منذ رفقاء موليير الأُوَل. وثمة مقولة داخلية مفادها أن "المسؤول يوظف، والممثلون يصرفون"، إذ أن الأعضاء هم أيضاً من يقرر الاستغناء عن بعض الممثلين، ما يتسبب أحياناً في إثارة اعتراضات ومشاكل.
وبعد جفاء طويل مع الجمهور في بريطانيا، بلد شكسبير، عادت المسرحيات المستندة إلى نصوص موليير أخيراً لتستقطب متفرجين كثيرين من الإنكليز المتعطشين لكوميديا عابرة للزمن أبدع بكتابتها المؤلف المسرحي الفرنسي الذي يُحتفل اليوم السبت بالذكرى المئوية الرابعة لولادته.
وفي قاعة المسرح الوطني في لندن حيث اعتاد الجمهور على المشاهد الجدّية العميقة، علت ضحكات الحاضرين خلال مشهد يغطي فيه الممثل الأميركي دنيس أوهير بدور شخصية Tartuffe الشهيرة لموليير، خيانته من خلال محاكاة ساخرة لمشهد فروسية بريء أمام البطلة الأخرى أوليفيا وليامز. وقال الممثل الأميركي لوكالة "فرانس برس": "الكوميديا يمكنها أن تعبر القرون إذا عرفنا ماذا نفعل". وأشار إلى أن "جزءاً من الفكاهة كان قائماً على اللغة، فيما استند جزء آخر على البلاهة المطلقة. لكن ثمة أيضاً لحظات عظيمة من الشفقة والعاطفة تغني العمل كثيراً".
وأثبت نجاح هذا الإنتاج المسرحي المستند إلى قصة Tartuffe عام 2019 بأن موليير قادر على استقطاب جمهور واسع في بلد شكسبير. لكنّ الحال لم تكن كذلك على الدوام. يقول نويل بيكوك من جامعة غلاسكو، وهو متخصص في أعمال موليير في البلدان الناطقة بالإنكليزية: "غالبا ما كان عدد الحاضرين على خشبة المسرح يفوق أولئك الموجودين في الصالة".