قادتني مشاهدة فيلم "عندما بكى نيتشه" إلى قراءة الرواية المقتبس عنها، وهي أوّل كتاب من ثلاثية الروائي الأميركي إرفين يالوم، والتي تناول فيها سيرة ثلاثة من عظماء الفلسفة، فبعد نيتشه، أصدر رواية "مشكلة سبينوزا" وأتبعها برواية "علاج شوبنهاور".
ولم أكتف بذلك فقرأت عملاً مشتركاً بين الروائي يالوم وزوجته أستاذة الأدب المقارن في اللغتين الألمانية والفرنسية في جامعة ستانفورد، مارلين يالوم، بعنوان "مسألة موت وحياة". يتقاطع هذا العمل مع الروايات الفلسفية السابقة بتركيزه على فكرة الموت، حيث يكتب الزوجان بعض يوميات مرض الزوجة بالسرطان، وانتهاء حياتها بالموت الرحيم.
وقام المترجم السوري المبدع خالد الجبيلي بترجمة هذه الأعمال إلى اللغة العربية.
ويقوم الفيلم، كما الرواية، على تخيّل لقاء بين الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه والطبيب النمساوي جوزيف بروير، والذي كان أستاذاً وصديقاً لمؤسس مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد.
خلال جلسات العلاج من نوبات الشقيقة الحادة والاكتئاب والتفكير بالانتحار، يفصح نيتشه عن أفكاره وتصوّره لكتابه المقبل "عندما تكلم زرادشت"، وكذلك يفعل الطبيب بروير الذي يتحدث عن اكتشافه النفسي، وهو العلاج بالكلام والتداعي الحر، والذي سيكون أساس التحليل النفسي عند فرويد.
يجمع الفيلم ببراعة شخصيات حقيقية تمثل التلاقح بين الفلسفة والتحليل النفسي، فصلة الوصل بين الطبيب اليهودي الناجح المطمئن والفيلسوف الرافض لكل ضعف والداعي للقوة وللإنسان السوبر مان، هي المحللة النفسية الجميلة لو سالومي، التي اشتهرت بعلاقاتها مع نجوم الفكر، وأدّى رفضها لنيتشه إلى تفاقم مرضه. كذلك، تظهر في الفيلم الناشطة الحقوقية بيرثا بابنهايم، والتي كرّمتها ألمانيا لاحقاً بصفتها ناشطة حقوقية نسوية بإصدار طابع باسمها، وهي مريضة وعشيقة الطبيب وسبب مرضه.
يشترك الفلاسفة الثلاثة، الذين كتب يالوم عنهم باقتدار، في المأساوية التي طبعت حياتهم وعزلتهم عن محيطهم وعدم زواجهم وموقفهم من الحياة، فضلاً عن اهتمامهم الفكري المركز على فكرة الموت والحياة، واعتقادهم الجازم بأنّ الحياة شرٌ ينبغي التعامل معه.
تقوم حياة نيتشه على مرضه منذ الصغر، واقتصار عالمه على أمّه وأخته النمامة، وعلى كونه ابن قس مسيحي، تنكر فردريك الشاب لعقيدته وأعلن فكرة موت الإله.
فيما تبدو حياة سبينوزا هادئة لولا الحرمان الذي طاله من الكنيس اليهودي في أمستردام، وأدى إلى إبعاده نهائياً عن عائلته ومجتمعه اليهودي.
ويظلّ الفيلسوف الأكثر تشاؤماً هو شوبنهاور، الذي عاش حياة العزلة باختياره وكان متكبّراً متغطرساً لدرجة أنه كان يذم ويقدح بمعاصره الفيلسوف الكبير هيغل وكذلك بفيشته، ويراهما غير جديرين بأفكار كانط العظيم.
ورغم أنّه كان شهوانياً في شبابه ممّا أدّى إلى إصابته بمرض الزهري واكتشف علاجاً له، إلّا أنّ رغبته خبت مع الزمن فلم يتزوج، واتخذ موقفاً سلبياً من المرأة.
وكانت علاقته بأخته الوحيدة فاترةً جداً، فيما كانت علاقته بأمّه، الكاتبة وصاحبة صالون أدبي شهير، شديدة السوء، ممّا أدى إلى انقطاع علاقتهما لمدة 25 عاماً. وكتبت الأم في رسالة لابنها: "أنت مزعج ولا تطاق والعيش معك صعب جداً. إن ذكاءك سوّد كل خصالك الحميدة، فأصبحت عديم الفائدة للعالم، إذ تجد عيوباً في كل شيء ما عدا في نفسك. لن أقرأ أو أجيب عن أي رسالة منك... هذه هي النهاية".
يكثّف شوبنهاور فلسفته بهذه العبارات: "لا يكون الإنسان سعيداً، ولكنّه يكافح طوال حياته لتحقيق شيء يخيل إليّه أنّه سيجعله سعيداً، نادراً ما يبلغ هدفه، وإن بلغ هدفه سيصاب بخيبة الأمل، وفي غالب الأحيان تتحطم سفينته في النهاية ثمّ يصبح الأمر سيان، أكان سعيداً أم بائساً، لأن حياته تلاشت وانتهت".
ما الحل إذاً عند فيلسوف التشاؤم، ولا سيما أنّه يعترف بأنّنا "محكومون بالحياة"؟
يقدمّ شوبنهاور وصفةً مكوّنة من "الصمت حيث لا انفعالات ولا تلقائية واستقلالية تامة عن الآخرين، وميكانيكية في السلوك والعادات وتجاهل الناس".
ورغم هذه الفظاظة كان شوبنهاور يعزف على الفلوت يومياً من ساعةٍ إلى ساعتين، بعد أن يكتب حوالي خمس ساعات، ويسبح يومياً في نهر ماين البارد، ويتنزه مع كلبه بساعة معينة، ويتناول الغداء بالنادي، مفضلاً أن يدفع ثمن وجبتين حتّى لا يجلس بجانبه أحد.