بعد مرور 22 عاماً على اعتقاله، لا يزال المناضل الفلسطيني مروان البرغوثي من أكثر الشخصيات السياسية حضوراً في الذاكرتين الفلسطينية والعربية. والكلمات المحبّة التي تقال عنه لا تزال تستحضر تاريخاً من الإقصاء والتهميش والقمع والمنع والإهانة. وفي كل مرة نستذكره من خلال فيلم أو حكاية، نصدّق من جديد ما قاله قبل 22 عاماً: "اعتقلت إسرائيل جسدي، لكنها لن تعتقل عقلي وروحي".
في عام 2016، شاهدت المخرجة البريطانية جورجيا سكوت لقطات من المقابلة التي أجرتها الصحافية ليندسي هيلسوم مع البرغوثي من سجنه للقناة الرابعة البريطانية. كانت تلك هي المرة الأولى التي تلمح فيها سكوت وجه البرغوثي أو تسمع عنه. أدهشتها قصّته التي "يصعب تصديقها"، وأعجبتها كلماته، وتلك الصلابة الممزوجة بإيمانه اللامتناهي بالقضية التي يدافع عنها.
تواصلت سكوت على الفور مع أفراد عائلته، وطلبت لقاءهم وتوجّهت بصحبة أختها صوفيا إلى بيتهم في رام الله. تقول جورجيا في حديث إلى "العربي الجديد" إنها أرادت عبر حكاية البرغوثي أن تروي حكاية كل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي (سبعة آلاف أسير)؛ لأن "لكل أسير قصة ولكل عائلة حكاية".
في يناير/كانون الثاني من عام 2017، شقّت الأختان سكوت طريقهما إلى فلسطين، حيث أمضتا سنة شاقّة من التنقّل بين مطاري تل أبيب وبيروت لتصوير فيلم "حرية الغد". تقول جورجيا إنها كانت تعيش في لبنان في ذلك الحين، وبالتالي كانت الرحلة صعبة جداً في كل مرة تغادر فيها مطار رفيق الحريري أو تعود إليه. عدا عن الصعوبات التي واجهتها هي وأختها مع سلطات الاحتلال، مع أنهما لم تطلبا إذناً، ولم تفصحا عن رغبتهما في إنجاز فيلم عن حياة البرغوثي الذي تشير الاستطلاعات إلى أنه ومن سجنه، سيكون الأوفر حظاً في أي انتخابات رئاسية مقبلة.
استغرق إنجاز الفيلم ست سنوات. وكان من الممكن أن يمتدّ لسنوات أخرى، لأن الحدث الفلسطيني ليس طارئاً، ولأن المقاومة تتجدّد في الداخل الفلسطيني... ولأن الحكايات لن تنتهي إلا مع انتهاء الاحتلال.
لقاءات عديدة أجرتها المخرجتان مع شخصيات مقرّبة من البرغوثي عاطفياً أو فكرياً. كان لافتاً ألا يضمّ الفيلم إلا وجهة نظر واحدة، وكان لافتاً أن يكون الأمر مقصوداً وليس صدفة. تقول جورجيا إن "الرأي الآخر الذي يعتقد أن مروان البرغوثي "إرهابي" مؤرشف ولن يتضمّنه الفيلم، لأننا ببساطة لا نريد أن نمنح مساحة وصوتاً للرأي الآخر، للرأي الخاطئ". بل أرادتا إبراز الرأي الذي برغم اعتقاده أن البرغوثي "ارتكب فعلاً إرهابياً" أو "أمر بهجوم إرهابي"، لكنه يدعم الإفراج عنه.
لذلك، كانت مشاركة وزير العدل الإسرائيلي السابق يوسي بيلين في الفيلم "مهمة" بالنسبة للمخرجتين، إضافة إلى الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي الذي رافق البرغوثي في الانتفاضة الثانية، لا سيما أن الرجلين يعتقدان، كل من موقعه، أن على السلطات الإسرائيلية الإفراج عن البرغوثي وعما يمثله من أفكار وقيم. ضمن هذا السياق، جاءت أيضاً المقابلة التي أجرتاها مع الكاتب والناشط السياسي جيف هالبر، الذي "تحضر أفكاره بقوة في المسألة الفلسطينية الإسرائيلية"، على حدّ تعبير جورجيا.
يرافق الفيلم، إلى جانب تلك اللقاءات العديدة، عائلة البرغوثي التي لم يفقدها الزمن قدرتها على اختراع الضحك والبحث عن سبل جديدة للعيش والمقاومة. كما تنتصر عبر الفيلم المفاهيم الإنسانية على تلك الأيديولوجية، فتصبح القضية الفلسطينية هي الفلسطينيين أنفسهم، وعائلة البرغوثي هي زوجته المحامية فدوى، وأولاده قسّام وشرف وعرب، وابنته الوحيدة ربى، وأحفاده الذين لم يعرفوا جدّهم إلا من خلال الصور المعلقة على الجدران، وأخوه الأكبر مقبل الذي يقول إن "مروان هو الحياة كلّها"، وإنه لا يكاد يغيب عن ذهنه كل لحظة منذ 22 عاماً، وإن جنود الاحتلال "طخّوا كلبه" عندما كان طفلاً صغيراً؛ فبدأ مبكّراً رحلته مع الفقد والظلم.
تصبح القضية هي حكاية السجن والساعات الطويلة التي تمضيها فدوى في الطريق إلى لقاء رفيق العمر، وفي انتظار تلك اللحظة التي تختصر وجودها. ثم تلتقيه لتكتشف ونكتشف معها أن اللقاء الذي يجمع الأسرى بعائلاتهم ليس سوى سجن في قلب سجن آخر. فبعد انتظار ساعات، لا يؤذن لها إلا بـ 45 دقيقة، تفصل بينها وبين زوجها حدود زجاجية، يلتقطان صوت أحدهما الآخر من خلال سماعة هاتف غالباً ما يكون معطّلاً. بينما يروي إلياس صبّاغ، محامي البرغوثي، كيف يميل برأسه يميناً ويساراً وراء الشبك الذي يعوق الرؤية، ليتمكن من التقاط ملامح موكّله في كل مرة يحصل فيها على إذن زيارة.
ثلاثة من أهم مهرجانات حقوق الإنسان رفضت عرض الفيلم
لا تريد الأختان سكوت أن تصنعا الأفلام لمجرّد صنعها، بل لتكون "أداة لتغيير الوضع الراهن". هذا ما دفعهما سابقاً إلى التوجه إلى البوسنة وأفريقيا ولبنان. وهذا بالضبط ما دفعهما اليوم إلى الغوص في حياة البرغوثي، وفي عمله النضالي، وفي الحياة اليومية لعائلته وللفلسطينيين، خصوصاً أن "ما يحدث في إسرائيل مع الحكومة الجديدة، ليس منفصلاً عن قصة البرغوثي وغيره من الأسرى، بل ثمة ارتباط عميق وجوهري". وتعتقد جورجيا "أننا سنشهد تغييراً كبيراً هذا العام، وأن الإسرائيليين أنفسهم يتظاهرون اليوم ضد حكومتهم، بسبب سياساتها المتطرّفة". كما أنها تذهب في تفاؤلها إلى حدّ الاعتقاد بأن "حلفاء إسرائيل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة سيجدون صعوبة في المضي في دعمهم لإسرائيل غير الديمقراطية والإقصائية، ليس فقط بحق الفلسطينيين، بل تجاه حقوق الإنسان عامة، وحقوق المرأة، وحتى حقوق المثليين".
لم تشأ جورجيا أن تكشف عن أسماء المهرجانات العالمية التي رفضت عرض فيلم "حرية الغد" (Tomorrow's Freedom)، لكنها أشارت إلى أن ثلاثة من أهم مهرجانات حقوق الإنسان رفضت عرضه، من دون تقديم أسباب واضحة ومباشرة.
كما أنها تحفّظت، خلال لقائنا بها، عن استخدام مفردات رفض أو منع أو مقاطعة، واكتفت بالقول إن "هناك نوعاً من المقاومة ضدّ الفيلم". ومع أن تلك "المقاومة" أغضبت المخرجتين، لكنهما تتفهّمان "حساسية" هذه القضية تحديداً، وستتابعان بحثهما عن الأسباب التي دفعت بعض المهرجانات إلى منع فيلم عن "أحد أكبر انتهاكات حقوق الإنسان على هذا الكوكب". في المقابل، سيكون للفيلم أربعة عروض في مهرجان "شيفيلد" السينمائي في بريطانيا، المقرر إقامته في يونيو/حزيران المقبل، إذ رحّب منظمو المهرجان بالفيلم بلا تردد، ولم يثيروا حوله أي تساؤلات.
كانت جورجيا تتمنّى لو أنها استطاعت إنجاز فيلمها "حرية الغد" مع البرغوثي، وليس عنه فقط، إلا أن محاولاتها هي وصوفيا للقاء به لم تنجح، هو الممنوع حالياً من لقاء زوجته أيضاً. لكن ما يخفّف من تلك الخيبة، بحسب جورجيا، هو أن البرغوثي لا يزال حاضراً في الشارع الفلسطيني، برغم تراجع الحديث عنه في الإعلام العربي والغربي، كما أنه من الشخصيات السياسية القليلة التي تحظى بكل هذا الإجماع.