يرفض "لا أحد"، كما يرد اسمه، محاولة الزوجين اللذين يحتجزهما لكسر الجليد (الذي ينشأ بشكل طبيعي في موقفٍ كهذا)، ويقول لهما إن الأفضل في مواقف كهذه هو ألا يعرف أحد أي شيء عن الآخر. وبالنسبة لشخصية تعيش موقفاً مشابهاً، تبدو الإجابة منطقية بعض الشيء، إلى أن نتذكر أن ثمة مشاهدين يمكثون وراء شاشةٍ ما، وعلى عكس أبطال الفيلم، فهم بحاجة إلى معرفة ما يشاهدونه.
نتحدث هنا عن فيلم "مكاسب مفاجئة" Windfall، من إنتاج "نتفليكس"، وإخراج تشارلي ماكدويل، وبطولة جيسي بليمونز وليلي كولينز وجيسون سيغيل. ينجح العمل في إيجاد توازنٍ بين العناصر التي تكونه، بقدر ما تنجح أي شخصية من شخصياته في حل مشكلاتها.
عمَّ يتحدث الفيلم؟
يبدأ العمل بلقطات عامة لقصرٍ مترامي الأطراف. كل ما في هذه اللقطات، من أشجار البرتقال التي تحيلنا إلى مكان الحدث (ولاية كاليفورنيا) والموسيقى، يوحي بأن الفيلم يحاول الاستلهام من نوع Film noir. داخل القصر، يعبث رجلٌ بكل ما تقع عيناه عليه. يجرب الاستلقاء في الشمس وتقشير البرتقال، ثم ينصرف نحو هدفه الرئيسي، وهو سرقة المنزل قبل عودة مالكيه: المدير التنفيذي لشركة تقنية وزوجته. إلا أن الاثنين يعودان بشكلٍ مفاجئ، ما يجبر اللص، أو "لا أحد"، على احتجازهما مؤقتاً ليحصل على فرصة للهرب، قبل أن يكتشف التقاط كاميرا مراقبة في الحي له، ويعود إلى الزوجين ويحتجزهما مجدّداً، لنعرف كمشاهدين، خلال هذا الظرف الطارئ، ما تيسر لنا عن كل شخصية وطبيعة العلاقات التي تربط بينها، ريثما تحصل مساعدة المدير التنفيذي على مبلغٍ نقدي يستطيع "لا أحد" عبره بداية حياة جديدة، بعدما أفسدت كاميرا المراقبة فرصته للقيام بعملية سريعة وخفيفة، وهو بالطبع ما لا يحدث بسبب بضعة أحداث مفاجئة.
مكانٍ واحد وضيّق
ثمة مشكلة هائلة في هذا الفيلم، وقد تكون الأوضح بين باقي مشاكله، وهي افتقاره إلى عناصرٍ لا تقوم دونها أي حكاية، بصرف النظر عن الوسيط الذي يقدمها. لدينا لص، نعرف مع مرور الفيلم أن مشاكله المالية تسبب بها -بشكلٍ أو بآخر- المدير التنفيذي، عندما ساهم في تسريح عدد كبير من موظفي إحدى الشركات. هل يسعى هذا اللص للانتقام فقط، عبر إعادة توزيعٍ أكثر عدلاً للـ"ثروة"؟ أم أن دوافعه أكثر شخصية؟ الأمر سيان بالنسبة للمدير التنفيذي. فعندما يقع الاختيار اليوم، بحكم التأثير الذي يتمتع به هؤلاء، يتوقع المشاهد مدخلاً ما، يكشف شيئاً عن هذا النوع من الشخصيات. ما يجري فعلياً، بالنسبة لشخصية المدير التنفيذي، هو رسمٌ ناقص للملامح، نرى فيه ما نعرفه كلّنا أساساً، إن كان فقداناً للحساسية أو تعجرفاً او تضخماً في الأنا، حتى في موقفٍ شديد الخطورة كعملية احتجاز. والحقيقة أن وراء هذه الحقائق العامة ليس ثمة شخصية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
تختلف الأمور للأفضل قليلاً في ما يتعلق بشخصية الزوجة. إذ يتضح جزء من صراعها الداخلي بين ماضيها والطريق الذي سلكته اليوم، مقارنة بالشخصيتين الباقيتين، كما تبدي مواقف واستجابة أكثر وضوحاً في ما يتعلق بزوجها والخاطف، وتبدو أكثرهم إدراكاً للظرف والفرضية التي ينطلق منها الفيلم. إلا أن ذلك لا يعني بطبيعة الحال أنها هي الأخرى قد نجت من فخ الرسم السيئ. إن هذا التركيز يكتسب ضرورة مضاعفة، لأن بناء الفيلم وانحصاره في مكانٍ واحد وضيّق (نسبياً، نظراً لكونه قصراً) يعني أن التركيز سيكون على تفاعل هذه الشخصيات التي تصطدم بعضها ببعض نتيجة انحصارها. وهنا تتكشف مشكلة الفيلم، إذ إن بناء الشخصيات الثلاث لا يصلح لأن تلعب أدواراً رئيسية في فيلم، مهما حاول الأداء تغطية هذا العيب، وهو في حالة Windfall جيّد من الممثلين الثلاثة وربما يكون أبرز نقاط الجذب في الفيلم.
صراع؟ وطبقات؟
ذكرنا سابقاً أن العمل يحاول الاستلهام من نوع Film noir، وثمة ما يعطي هذا الانطباع في الفيلم جمالياً، وعلى صعيد القصة وأبطالها. إلا أن هذا الطابع بالكاد يتخطى القشرة، حالما يكتشف المشاهد بعده أن ما يقوم به الفيلم محاكاة بسيطة. على الرغم من أن المصطلح بحد ذاته فضفاض، وينسب عادةً لطيف واسع من الأفلام، للدرجة التي تدفع البعض لاعتباره أسلوباً أكثر من كونه نوعاً سينمائياً، فإن المحاولة التي يُقدِم عليها الفيلم لا يمكن أن تخطئها العين. لدينا البطل المسحوق الذي يمكننا الآن فهم المباشرة التي انتهجها الفيلم حين سمّاه "لا أحد"، والذي يبدو مدفوعاً بسبب ظروفه للعب دوره في حدثٍ ينتهي بطريقةٍ مأساوية. ولدينا الطرف الآخر الذي لم يعد محامياً كبيراً أو رجل أعمالٍ تقليدياً، بل ريادياً تقنياً بالتماشي مع بيئة اليوم وأشرارها الفعليين الذين يمكن للعنف الذي يصدر عنهم ألا يكون مباشراً وجسدياً مثل الخصم المسحوق، إلا أنه يكون أكثر خطورةً وأشد تأثيراً. تلعب الزوجة دورها المنفصل في تحريك الحدث، إذ يبدو الصراع بالنسبة لها مقسوماً إلى جزءٍ يتعلق بزوجها، بتاريخ علاقتهما وطريقة معاملته لها، وإلى آخر يتعلق بالظرف الجديد الذي يحضر فيه المحتجِز. وذلك على عكس زوجها، الذي يبدو حتى اللحظة الأخيرة، متأكداً من كونها في صفه ضد عدو مشترك، والمحتجِز الذي يتعامل مع الزوجين كـ"آخرين"، لا يشبهانه ولا يمتان له بصلة.
مجدداً، على الورق، تبدو الوصفة ناجحة لإبقاء المشاهد مندمجاً مع أحداثٍ تدور في ذات المكان. لكن، في الواقع، فإن هذه الصراعات لا تؤدي الدور المتوقع منها. فبالنسبة للص، لا يمكن للمشاهد فهم الدوافع التي أدت به إلى اختيار هذا المنزل بالتحديد، وعندما يعترف في نهاية الفيلم بأنه يتمنى لو عاش حياة المدير التنفيذي، ويصارح خصمه بأنه تمنى لو أنه كان شخصاً جيداً، فإن ذلك بالكاد يوضح أي شيء، إن لم يزد الأمور تعقيداً. إذ إننا، بعد كل شيء، شاهدنا فيلماً كاملاً يقدم شخصيةً تدرك وضعيتها ومكانها في المجتمع، وتعرف أن واحداً من أسباب أزماتها يتمثل في هذا الشخص، لنُفاجأ في نهاية الفيلم بكونه شخصاً شريراً! وكأن لحظة تفاجؤ واحدة كهذه أثمن من بناء فيلم بأكمله.
يمكننا أيضاً أن نقول إن المدير التنفيذي، شرير اليوم، قد نال جزاؤه العادل. إن أسوأ عقوبة تلحق بشخصية خيالية، هي أن تهيم على وجهها مسافة فيلم كامل، من دون أسبابٍ تبرر وجودها؛ فبينما يذكرنا المدير التنفيذي كل وهلة بكونه إنساناً سيئاً ومتعالياً (للدرجة التي تدفعه في إحدى اللحظات لدفع اللص إلى طلب فدية أعلى والسخرية من قلة مهاراته المالية)، يفشل الفيلم في تقديم فلسفةٍ أو دوافع تبرر هذا الشر، وكأن الاكتفاء بعرض العجرفة والتفوّق كفيل بأن يقدم لنا شخصية مثيرة للاهتمام، ولذلك فإن أبرز لحظة لشخصية كهذه، هي حين يسأل السؤال الذي يدور في أذهان المشاهدين جميعاً: لماذا ننفذ طلبات هذا اللص؟ وهو سؤال محق يكاد يبطل فرضية الفيلم نفسها.
وإذا كانت الزوجة، في نهاية الفيلم، تقوم بالفعل الأبرز في الفيلم كلّه، وتضيق ذرعاً بالشخصيتين الباقيتين، فإن التمهيد الذي يسبق هذه اللحظة يُفقِد هذه الأخيرة أي طابعٍ مقنعٍ أو تطهيري حتى، ويبدو إلزامياً لأننا، كما نعرف جميعاً، أمام فيلم سيحمل نهاية قاتمة، أو هكذا تم تصورها.
وعلى الرغم من كل ما يبدو للوهلة الأولى مثيراً في Windfall من الفرضية التي اختارها وحتى طاقم الممثلين، فإن انطباعاً بوجود فرصة ضائعة سيصيب المشاهد في نهايته، وهذه أفضل طريقة لوصفه بكلمات قليلة. هل كان يمكن لهذه الفرضية أن تتبلور بشكلٍ أفضل؟ بالطبع، وهذا هو سبب الخيبة. ومع ذلك، فإن الوقت المكرّس لمتابعة فيلمٍ كهذا لا يضيع سدى بالكامل، بل يفيد في طرح الأسئلة عن الإنتاجات المعاصرة اليوم، وما تقوله أو تدعي قوله، كأن يصبح الصراع الطبقي طبقاً يُطهى بسرعة وبتبسيط مدرسي، تعرضه لنا شركة تقوم اليوم هي أيضاً بتسريح موظفيها بسبب انخفاض قيمة أسهمها.