بدأت السينما، في السنتين الأخيرتين، بمهر معظم إنتاجاتها بختم كوفيد ــ 19، الأمر الذي أوقع الصُّناع في فخّ النزعة التوثيقيّة المُباشرة، التي لا تُعطي فنّاً ذا استمراريّة بقدر ما تنطفئُ مع توالي الأيام والأحداث. على الطرف المُقابل، برز تحدٍ آخر، يتمثّلُ بتحويل الوباء إلى حالة من التّجريد، تُنتِجُ أعمالاً لا ينتهي بها المطاف على رفِّ الوثائقيات والأرشيف، إنّما تمتدُّ بحضورها أبعد من ذلك. إلى هذه الفئة من الأفلام، ينتمي فيلم "كيمي"، إخراج ستيفن سودربيرغ، وكتابة ديفيد كاب الذي اشتغل على تقديم فيلم عن الوباء خالٍ من لوثة العمر القصير أو الترند.
انطلق الفيلم من موضوعة العزلة القسريّة، وهي إحدى هذه الموضوعات الأثيريّة اللاماديّة، التي تؤثر على الجانب النّفسي للوباء في حياتنا، وليس الصّحي الجسماني المُباشر. هذا ما جذب سودربرغ بالفعل، المخرج الذي سبق وقدّم 47 فيلماً، طغت عليها مفاهيم مقاومة تغلغل التكنولوجيا في حياتنا الاجتماعية. من هنا، نستطيع فهم استقالته من هوليوود منذ زمن طويل، وتقاعده مدة أربع سنوات، وما كانَ ليعود إلّا عام 2017 بإنتاجات متوسطة الميزانيّة. وهذا ما ينطبق على "كيمي" (إنتاج HBO) بقصته التقليدية البسيطة.
يتناول الفيلم قصة أنجيلا (زوي كرافيتز) التي تسكن مدينة سياتل الأميركيّة، في عُلّيّة صناعية أنيقة لا تبرحُها، كما لا تُمكن رؤية كلّ أركانها المظلمة، إذ تعمل عن بعد في شركة Amygdala الخيالية -نسبة لاسم جزء الدماغ المسؤول عن تقييم التهديد- وتصحح الأخطاء البديهية التي يقولها المستهلكون لجهاز KIMI، وهو مساعد ذكي على مثل Siri وAlexa، ينفّذ الأوامر، ويبقى على استعداد دائم للاستجابة عند مناداته. بيد أنّ هذه الـ KIMI تختلف عن شبيهاتها من المساعدين الإلكترونيين؛ إذ إنها تملك جيشاً من الروبوتات البشرية التي تُعلّمُها وتطوّر خوارزمياتها العميقة.
أسس المخرج على عوالم نص الكاتب عالمَ أنجيلا داخل المنزل، بعد وقت قصير من الجائحة، وما فرضته من لوازم مواجهة يوميّة: كمامات أينما تحركت، معقمات على الطاولة، التواصل حصري عبر الشاشات، من دون أن يعلم المتصل شيئاً عن مكان من يتواصل معه. في حين يتعاظم القلق منذ اللحظة الأولى في الفيلم، القلق الذي لا تُبدّدُه المَشاهِد النّهارية المُشمسة، لأنَّ تصوير المساحات الطويل والوسائد يرافقه إحساس بالخطر المُحدق بتلك المرأة/البطلة. عدا ما تُثيرُه اللمحات السريعة لعلب الأدوية الكثيرة، والإشارات إلى سنّ عَفِن، والاحتجاجات المُتلفزة، كلّ هذا يستثير إحساساً بالاغتراب والتعاطف البارد قبل الوصول إلى الأزمة الحقيقية.
ينتقل الفيلم إلى البطلة التي تُجسّد آلام الوباء، حيثُ تقضي وقتاً طويلاً بالنظر من النافذة، لترى العالم والجيران الذين ينظرون بدورهم إلى مدينة محفوفة بجدران أعلى. على مستوى نفسيّ دقيق، يعود القلق إلى أنجيلا جرّاء تعرُّضها إلى حادثة اعتداء في الماضي، فاقمه الحَجْر، الأمر الذي يعيقُ إقدامَها على الخروج. إنّها إشاراتٌ تُذكّرُ بالساق المكسورة لبطل فيلم "النافذة الخلفية" لألفرد هيتشكوك، الذي عبّدَ طريق القلق والتوتر في السينما، ليخطو عليه المخرجون من بَعدِه.
يظن المشاهد في البداية أن الفيلم عن الأنشطة المملة؛ لما فيه من مشاهد طويلة عن نشاطات العزلة. لكنّ هذا التأثير يزيد من مزاج القلق، تشفعُه استراتيجية تصوير تبدو مثل قطعات متتالية سريعة. ولا ننسى الزاوية العمودية من الأعلى إلى الأسفل، التي ساهمت في التحضير لذروة الفيلم وتعميق حالة الاضطراب لدى أنجيلا، فنرى البطلة تكتشف تسجيلاً صوتياً على أحد أجهزة KIMI، التي تعمل عليها، يثبت تعرض امرأة للاغتصاب والقتل. تُقرر أنجيلا إبلاغ الشركة بما سمعت وتبدأ معركتها مع البيروقراطية والسياسة التي تُكثفها شخصية المدير العام ومديرة قسم الدعم وعلاقتهما بالعصابات. يزداد التشويق عندما تحزم أنجيلا أمرها للخروج، ليتحول التكوين السينمائي إلى الهذيان المتسارع والتخفي والانسلال.
تضعفُ حبكةُ القصّة قليلاً مع سيطرة المطاردة على المَشَاهِد، لكنّ المخرج ينجو من السقوط في الكليشيهات، حيث يُبرز الموقف النقدي من جنون العالم، وامتلاك الشركات العملاقة اليد الخفية المتحكّمة بالبيانات العملاقة، وتحويلها لاحتكار خاص، بمراقبة زبائنها والمشتركين، حتى الموظفين الذي يعملون على المراقبة. وصولاً إلى لقاء أنجيلا مع مديرة قسم الدعم، ليتّضح للمُشَاهِد أن الخصوصية هي وهمٌ مُتبخّر.
يُشار إلى أنّ سودربرغ هو أول مخرج سينمائي يصنع فيلماً عن الركود العظيم (The Girlfriend Experience) وفيلماً آخر عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الرياضة والتجارة، وله تجارب جريئة منها تصوير فيلم Unsane بالكامل على جهاز آيفون. وما زال يحافظ على محور الأسئلة في أفلامه، التي تدور حول الرأسمالية والأخلاقية والتشكيك في الغزوات الرقمية للخصوصية.
الصلة بين التكنولوجيا البيولوجيّة والجريمة مطروحة في KIMI ومرحلة الوباء، وما تلاها من إغلاقات، أكثر ما جسّدت هذه الصّلة. كذلك حرب احتكار البيانات مشتعلة في الكوكب اليوم، وغيرها من الصّراعات اللامرئية النّاعمة. هنا، إن لم يكن الفنّ السابع مُشتبكاً بأثرٍ فنّيٍّ رفيع، غير غارق بالنّزعة التوثيقيّة، قادراً على الاستثمار في الهوامش كما فعل سودربرغ في كيمي، فماذا عساه يكون؟