يعثر آلان (آلان نجم) على مساحة آمنة له عند ممارسته رياضة الغطس في أعماق البحر، بعيداً عن صخب مدينة وارتباكاتها غير المنتهية ("تحت السماوات والأرض" لروي عريضة). يجد ميلاد وجميل خوام خلاصهما في هجرة إلى أوروبا، يعتبرانها بداية حياة جديدة لكلّ واحد منهما، بعيداً عن خراب بلدٍ وانهياراته ("نحن من هناك" لوسام طانيوس). لن يكشف آلان اللبناني، بسرده الصامت لحكايته مع القهر والألم والانكسار والخيبة والاختناق والضيق، دمار مدينةٍ (بيروت)، فهو مكتفٍ بفضح ذاتٍ تريد راحةً، فيتكثّف فيها القلق والتعب والإرهاق والوجع. لن يلتفت الشقيقان السوريان إلى الحاصل في مدينةٍ (دمشق)، فهما يجهدان إلى إنقاذ ذاتيهما من شقائها وحصارهما فيها، من دون إشارة إلى راهنٍ سوريّ مليء بغليان الموت والدمار والتهجير والفوضى، منذ 9 أعوام.
تظهر بيروت عبر أبنية وأخبارٍ مؤلمة، كانفجار سيارة مفخّخة. وتظهر دمشق في طيات علاقة شخصية للشقيقين بها، وفي ارتباطهما بذكرياتٍ وأمكنةٍ عائلية قليلة للغاية، من دون أنْ يكون لها حيّزٌ كبيرٌ في كلامهما عنها، بل فقط في ذاتٍ وروح واجتماع. آلان غطّاس ماهر. ميلاد موسيقيّ، وشقيقه جميل يقترب أكثر فأكثر من النجارة، مهنة والده وجدّه. آلان باقٍ في بيروت، وبحرها راحة له، من دون أنْ يرى فيه خلاصاً بالهجرة؛ بينما جميل يستعين بالبحر لبلوغ أرضٍ أخرى تتيح له، ولشقيقه أيضاً، فرصة عيشٍ جديدٍ. بالنسبة إلى آلان، البحر اطمئنان إلى أنّ شيئاً مُحبّباً يحضر في أوقات الموت؛ بينما ميلاد وجميل يخوضان خطر الموت في البحر (وفي غيره) لاطمئنانٍ إلى حياةٍ تصنعها لهما هجرة، ورغبةٌ فيها.
حصار بيروت أعنف من أنْ يحرِّض آلان على جعل البحر انبعاثاً جديداً له. مأزق العيش بين دمشق وبيروت يحثّ ميلاد وجميل على مغادرةٍ مشوبة بقلق وخوف وضيق، يتحمّلانها كلّها فالـ"غد" أفضل وأهدأ وأجمل وأكثر سكينة، ربما. حصار بيروت يتغلغل في روح آلان وجسده، فيُصيبهما بعطبٍ يحول دون نجاته من بيروت والحصار والعطب، رغم أنّه يستكين إلى البحر، وفيه. مأزق العيش يزداد في يوميات ميلاد وجميل، فيستعين الثاني بالبحر، وإنْ قليلاً، لنجاةٍ تتشابه بوضوحها مع بؤس آلان وشقاء بقائه. ينأى آلان بكلامه عن سؤال الهجرة ـ البقاء، رغم بوحٍ قليلٍ عن قرفٍ واختناق؛ بينما يُقيم ميلاد وجميل في السؤال نفسه، فسيرتهما تتماهى بالسؤال، وباتّساع محتواه. لكنّ الإجابات معلّقة، والحسم ملتبس، وإنْ تمنح الهجرة خلاصاً، والبقاء مزيداً من موتٍ.
يروي آلان حكايته في متتاليات بصرية، تجمع بين مدينة ومهنة ورغباتٍ وعلاقاتٍ وبحثٍ مبطّن عن منفذٍ وهروبٍ، في روائيّ طويل هو الأول للّبناني روي عريضة. ينكشف ميلاد وجميل خوام أمام كاميرا اللبناني وسام طانيوس، ابن عمّتهما، في وثائقيّ يفقد جماليات التوثيق السينمائيّ، لانهماكه في واقعية بحتة يريد توثيقها لا أكثر. الروائي (بين السماوات والأرض) يمتلك سمات تعبير سينمائي، يتوضّح شيئاً فشيئاً في مسارٍ درامي (كتابة عريضة)، وتصوير حِرفيّ في البحر وخارجه (جاك جيرو، بمساعدة اختصاصيّ التصوير تحت سطح البحر، أرثور لوتِر)، واشتغالاتٍ أدائية عادية غالباً، مع شيءٍ وفيرٍ من واقعيةٍ محاصرة بأحوالٍ مدمِّرة. الوثائقي يميل إلى تسجيلٍ غير مكترثٍ بجماليات السينما الوثائقية، وغير معنيّ بإضافاتٍ، فالنصّ (كتابة وتصوير وسام طانيوس) غير مُدّعٍ، وغير هادفٍ إلى ما هو خارج الحكاية البسيطة لهجرة جديدة، يحقّقها شابان يريدان مستقبلاً أفضل، لن يعثرا عليه في بلدهما.
خراب بيروت ينبثق فجأة، لكنّه غير متحكّم بالسرد والتفاصيل والجوانب الدقيقة في عيشٍ وعلاقاتٍ ومشاعر. خراب دمشق يضمحِّل إزاء نبرة الشقيقين الذاهبة بهما إلى معنى البقاء وآفاق الهجرة، وعناوين ذاكرة وصُوَر قديمة، منها تسجيلات بكاميرا "فيديو منزلي" عن احتفالات ومناسبات عائلية مختلفة، وعن أب وجدّ نجّارين، وعن موسيقى وأحلامٍ يُخشى عليها من الاندثار.
"بين السماوات والأرض"، المُشارك في الدورة الـ36 (9 ـ 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان وارسو السينمائي الدولي"، يكشف ذاتاً ومواجعها، بلغة سرديّة تمزج بوحاً قليلاً، وصُوراً من يومياتٍ تقول أكثر من كل كلامٍ، رغم أنّ للكلام حيّزاً درامياً يتكامل وصُور العلاقات والانفعالات والمصائب. "نحن من هناك"، المعروض في الدورة الـ49 (22 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، يُسرف في تسجيل وقائع وتعابير وأقوالٍ ولحظاتٍ، كأنّ السينما الوثائقية غير ماثلةٍ في وعي وسام طانيوس، وغير محرِّضة له على ابتكاراتٍ تُضيف على شريطه جمالياتٍ أو امتدادات بصرية، تُزيح عنه تسجيليّته المفرطة.
للفيلمين، المُشاركين في مسابقة "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ42 (2 ـ 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، ميزة البحث في أحوالٍ فردية، بعيداً عن خطابية الجماعة، وانزلاقاتها القاتلة. مع روي عريضة، ينفتح آلان على آلامٍ وقلاقل وارتباكات ومخاوف وحاجات ورغبات وأحلامٍ، محصورة بفردٍ يريد راحةً لن يعثر عليها خارج اهتمامٍ شخصيّ برياضةٍ، ربما لن تتمكّن من إنقاذه دائماً (المشهد الأخير: يعوم آلان على سطح البحر، إلى جانب حبيبته. أهذا حلم أم واقع؟ أهذه رغبةٌ في خلاصٍ أم تأكيد على حصار دائم؟ أهذا خروج على خرابٍ أم انغلاقٌ في المساحة الآمنة الوحيدة، لكنْ غير المرتبطة بواقعٍ، وبأسئلته وشقائه؟). مع وسام طانيوس، يُغامِر ميلاد وجميل في اختراق الحصار، إذْ لعلّ هناك خلاصاً بعد الحصار، فالتجربة تستحقّ مخاطرة، والهجرة أملٌ، وكاميرا التسجيل التوثيقيّ شاهدٌ على الآنيّ.
جماليات الروائيّ، تصويراً وتقنيات وتمثيلاً (وإنْ يتفاوت التمثيل بين المشاركين في "بين السماوات والأرض")، تُضفي شعوراً حسّياً، إلى حدّ كبيرٍ، بشعور آلان وتخبّطاته ورغباته الموؤودة. تسجيلية الوثائقيّ (نحن من هناك) تُلغي كلّ تفاعل جماليّ وبصريّ، فالأولوية للحكاية وللشخصيتين، ولعلاقة المخرج بالحكاية ومساراتها ومضامينها المختلفة، وبالشخصيتين وأفعالهما.
فيلمان لبنانيان إنتاجاً ومضموناً، فللشابين السوريين علاقة بلبنان. فيلمان ذاتيان بشدّة، وإنْ يتفاوت أحدهما مع الآخر، جمالياتٍ واشتغالات.