"فيزيا وعسل"... عن الحب قدراً وحيداً

04 مايو 2024
بطلا العمل ألان سعادة وريتا حايك (لينا خوري/فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- لينا خوري تنتج مسرحية "فيزيا وعسل"، معالجة موضوعات الحب والوجود الإنساني، في عمل يجمع بين الإبداع والتحديات المالية، ويعكس الجمالية الرهيفة من خلال ترجمة وإعداد وإخراج لنص نيك باين.
- المسرحية تستكشف العلاقة بين مربي نحل وعالمة فيزياء، متناولة الفرح والحزن والتراجيديا، وتبرز كيف يمكن للحب أن يوحد البشر ويعرضهم لتجارب قاسية، مثل معاناة السرطان.
- "فيزيا وعسل" تتميز بأداء متقن واستخدام مبدع لعناصر الميزانسين والديكور، مقدمة تجربة فنية غنية ومتعددة الأبعاد، وتعد نموذجًا للمسرح التجريبي الذي يتحدى الصور النمطية.

تعيدنا المخرجة اللبنانية لينا خوري إلى سؤال المسرح والتمويل، فوجود التمويل، أو بمعنى أصح وجود شركات للإنتاج المسرحي، هي عتبة أساسية لحضور هذا الفن في المجتمع الحي. لكن خوري تجاوزت هذا الشرط، وأنتجت مسرحيتها الأخيرة "فيزيا وعسل" بذريعة إبداعية ذات جمالية رهيفة، إذ قالت ما معناه إنها لم تستطع تفادي إخراج هذا النص المسرحي للكاتب البريطاني نيك باين (عنوان النص الإنكليزي Constellations، وتمت مسرحته للمرة الأولى عام 2012 على خشبة رويال كورت)، فأسئلته المؤثرة دفعتها لمشاكسة عقدة التمويل والمغامرة في صنع هذا العمل ترجمةً وإعداداً وإخراجاً وإنتاجاً، ثم لمشاركة وهج هذه الأسئلة الحارقة مع الجمهور.

"من يستطع لحس كوعه فسيطول عمره أبد الدهر"، هكذا أدخلتنا لينا خوري إلى معضلتنا الغلغامشية نحن البشر. ولكن دعونا من الخلود، ولنتجه إلى لبّ اللحظة الشعورية التي تساوي بين البشر وتفرقهم في آن معاً، وإلى الحب تحديداً حيث تتنوع تجارب البشر. غير أن الحب هو الحب، ولا أحد يستطيع تعريفه، ولا تحديد زمان وقوعه ولا مكانه. إذاً، ما القوة التي تدفعنا كي نحب مثل بقية البشر؟ وهل البشر كلهم يعشقون بالطريقة نفسها ويواجهون النهاية نفسها؟ هذا ما وضعتنا أمامه هذه المسرحية.

لكن ما الهمّ إذا كان الحب بهذه النوعية أو تلك الطريقة ما دام الحب هو الحب؟ فها هو مربي النحل وعالمة الفيزياء الفضائية يورطان بعضهما بعضاً في علاقة حب مثل البشر كلهم، إلا أنها ليست كسائر البشر أيضاً. نعم، يتورطان، فالطاقة على كبح الحب هي طاقة متلاشية بالضرورة، إذاً عليهما الخضوع لها، كما سيخضعان لكافة الظروف القسرية التي تؤدي إلى تغيير مجرى الحياة ككل، ليصير الحب تفصيلاً صغيراً، وإنما أيضاً مؤسساً وأساسياً في كينونة العيش البشري، إذ بدت أحداث المسرحية كتراجيديا إغريقية لا فكاك منها عندما تصاب عالمة الفيزياء بسرطان لا فكاك منه لدرجة طلب الموت الرحيم.

ولكن هل غادرنا نحن الحب، أم غادرنا هو؟ لم يحصل ذلك في المسرحية، ولا يحصل في الحياة. يبدو الحب كقدر وحيد جامع، يرافق ويشاكس الأقدار الأخرى كلّها، بل ينافسها على الأحلام العنيدة التي تقض مضاجعنا. الحب هو ولادة من نوع ما لا يمكن إرجاعها إلى رحمها الأول من دون حمل علاماتها إلى الأبد. هل يمكن القول إن الظروف هي من تحكم على أو تتحكم بِهذا الهائل من الدفق الإنساني؟ من الجرأة أن نحكم بنعم أو لا، ولكنها الحياة بأحوالها وأهوالها، وعلينا كبشر استكمال محاولاتنا للحس أكواعنا، ولكن هذه المرة (على ما أظن) لتكريس النقاء والخفة والفرح.

سينما ودراما
التحديثات الحية

أربعة عناصر استطاعت المخرجة لينا خوري توظيفها ببراعة، وقادتها لتأتي بالفائدة على العمل: الميزانسين (Mise-en-scène)، والديكور، والملابس، والإضاءة. وليس من العابر القول إن هذه العناصر موفقة ومنسجمة، وربما علينا القول أكثر من ذلك، خصوصاً عن تمثلها للنص، فالديكور تتآلف فيه العناصر العمودية والأفقية، لتبدو على تنافر مقصود بينها هي ذاتها وبين الإضاءة، لتؤلفا حواراً على المشاهد أخذه بعين الاعتبار كمفردات مسرحية مكملة للغة الأجساد التي تتقافز بحواراتها بين مستويات الخشبة المتعددة. شواهق العناصر العمودية شاركت في الإضاءة أيضاً، حيث بدت كشرط مسرحي قابلة للتأويل والإيضاح معاً. الإضاءة انجدلت مع الملابس وتبديلها على الخشبة، والتي كان من وظيفتها تغيير الزمان والمكان، وهذا ما احتاج من الممثلَين ريتا حايك وألان سعادة جهداً ذهنياً كبيراً، فهما لا يمثلان فقط، بل يشاركان في صياغة الخشبة في كل مرة يتغير فيها الزمان والمكان وحتى الحالة الدرامية. ويمكننا النظر باستفاضة إلى هذه العناصر وكيفية توظيفها بما يخدم الوجهة الإخراجية، وهذا باعتقادي جهد كبير ومرير بذله صنّاع العمل ليخرج بهذا الجمال.

وبالحديث عن الأداء، فإن ألان سعادة استطاع بجسده توظيف الفراغ بما يمكن تسميته ديناميكية إشغال الخشبة بما يفيد العرض، ولكن المناسبة تفرض أيضاً الإشادة بشغل ريتا حايك التي بدت في "فيزيا وعسل" سيدة مسرح فائقة المهارة والاحترافية، في أداء متوتر واضح النزق ينتقل بسلاسة بين الواقعية والحلم، من دون أي إخلال بحضور زميلها على الخشبة، في نص يصعب حفظه مسرحياً حواراً وحركةً وتبديل ملابس.

"فيزيا وعسل" عمل غير اعتيادي عمّا عرف عن مسارحنا ومسرحياتنا في شرقنا هذا، حيث لا إعادات ولا استعادات، فالعمل فيه من التجريب ما قد لا تحتمله حياتنا المسرحية، ولكن المخرجة/ المعدّة استطاعت حمله إلى عالم الطرافة من حيث تدري، وتقديمه إلى جمهور يستطيع هضمه، من دون الولوج في غوغائيات ادعاء التجريب وفي متاهات الاستنساخ. بقيت لينا خوري مخلصة لفرادتها وحيويتها على الرغم من غيابها الطويل، لكن المهم أنها عادت.

المساهمون