فيروز في التسعين... من قال إنها لا تضحك؟

21 نوفمبر 2024
فيروز في مطار أورلي الفرنسي، 1975 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيروز، الصوت الملائكي، لم تكن مجرد مغنية بل رمزاً ثقافياً وفنياً، تميزت بخجلها ووقارها، مما أضفى عليها هالة من الغموض والجاذبية، وسعت دائماً لتقديم الأفضل في كل ظهور لها.

- قادت فيروز حركة فنية وثقافية مع الأخوان رحباني، وتناولت أغانيها مواضيع متنوعة من الحب إلى الوطن، مما جعلها قريبة من قلوب الناس في العالم العربي، واستقبلت بحفاوة في زياراتها لمصر.

- فضلت فيروز الغناء في المسارح ورفضت المطاعم، مقدمة فنها بأبهى صورة، مما أكسبها احترام الجمهور والنقاد، وفضلت الغناء للناس والبلدان، مؤكدة مكانتها العالمية بزيارتها لباريس ولقائها بالرئيس ماكرون.

لست خبيراً موسيقياً، لكنني من عشاق صوت فيروز وأغانيها. ولست من الفضوليين الذين يهتمون بحياة المشاهير الخاصة، لكنني مغرمٌ بإبداعها العام. ولم أُجرِ معها مقابلة خلال عملي صحافياً محترفاً، لكنني كتبت عنها وعن مسرحياتها وأغانيها في مقالاتي النقدية، وكانت مقالتي الثانية في ملحق "النهار" عن فيلم "بياع الخواتم". كانت لقاءاتي شخصياً بها قليلة وقصيرة، لكنني عرفت الكثير عنها من الدائرة المحيطة بها، من عاصي ومنصور والياس رحباني إلى نصري شمس الدين وجوزف عازار وفيلمون وهبي وصولاً إلى إيلي شويري وملحم بركات وسواهم.

في مصر، حيث وُلدتُ ونشأت في الإسكندرية، لم تكن فيروز في الخمسينيات من الأسماء الشهيرة في دنيا الغناء، رغم زيارتها إلى القاهرة لتمضية شهر العسل مع زوجها عاصي سنة 1955، ورغم قدومها مجدداً إليها بعد فترة وجيزة لتسجيل مجموعة من أغانيها التي نظمها ولحنها الأخوان رحباني لحساب إذاعة "صوت العرب". لكنني في عائلتي اللبنانية كنت أعرفها وأسمع أغانيها. كان أبي يحرص على اقتناء أسطوانات أغانيها حين نزور لبنان في العطلة الصيفية. هكذا بدأتُ أصغي إلى الأغاني الفيروزية الرحبانية وأستمتع بهذا اللون الغنائي المختلف: الأغنية القصيرة ذات المواضيع المتنوعة والصياغة الشعرية الجميلة واللحن الرشيق. وما لبث الاهتمام أن تحول إلى إدمان، بدأ خصوصاً في مطلع الستينيات مع أسطوانتين، الأولى فيها تسجيل حفلة معرض دمشق سنة 1960، والثانية مغناة "عودة العسكر". وكان الشوام المقيمون في مصر يرددون بعض أغاني الأسطوانتين في حفلات الجاليات، خصوصا "شتي يا دني" و"هلّي عالريح يا رايتنا".

في سنة 1966 كنت طالباً في السنة الدراسية النهائية في المعهد العالي للسينما في القاهرة، وكان محمود أمين العالم أستاذنا في مادة النقد الأدبي والفني. كان عائداً من زيارة إلى بيروت، ونبّهني إلى قراءة العدد القادم من مجلة "المصور". كانت مقالته ملتهبة، بها عتب شديد على الإذاعة المصرية لتقصيرها في بث أغاني فيروز إلى حدود تكاد تلامس المنع، وأبدى استغرابه الشديد من إهمال بث "القدس العتيقة" والأغاني التي تتناول موضوع الحب في أجمل صوره، وفي مختلف حالاته، فضلاً عن أغاني الوطن والأرض والفلاحين والطلاب والربيع ومواسم الحصاد، ووجّه نداء إلى الرئيس جمال عبد الناصر يناشده إصدار الأمر بالإفراج عن أغاني فيروز الرائعة.

حصل التجاوب الرسمي، ووجهت وزارة الثقافة المصرية دعوة رسمية إلى فيروز والأخوين رحباني لزيارة القاهرة. كانت الحفاوة بالغة، والاهتمام الإعلامي شاملاً، وأخذت موجات الأثير تحمل صوتها شادياً إلى مسامع الناس، ورافقها ترحيب شعبي بالنجمة الساحرة وأغانيها. استقبلتها في التلفزيون المذيعة الرقيقة المتألقة سلوى حجازي في برنامج أعدّه أنيس منصور بحضور جمهور ملأ الاستديو، وافتتحت اللقاء بترحيب حار "يسعدنا أن نلتقي في هذه الحلقة الأولى من برنامج (أهلاً وسهلاً) بصاحبة الصوت الشفاف الرقيق الملائكي: فيروز". بدأت الحلقة بسؤال عن خجل فيروز وتجنّبها المقابلات الصحافية، فلم تُخفِ النجمة شعورها بالخجل، لكنها أضافت إليه مسألة تهيُّبِها، خصوصاً لدى لقاء الجمهور، لأنها تحرص على الإتقان وعلى أن تبدو في أبهى صورة. وما صرّحت به فيروز هو في الواقع ميزة تلازم الكبار في الأدب والفن.

بعد محاورة المذيعة المطوّلة أُعطي الميكروفون للجمهور ليطرح أسئلته. كان بين السائلين طالب لبناني يدرس في القاهرة سألها: "في أغنية (خايف أقول اللي ف قلبي) غنّى عبد الوهاب (أنا زارني طيفك في منامي) وأنت غنيتها (أنا زارني طيفك بمنامي). ليش؟". ضحكت فيروز ضحكة خجولة، وألقت على السائل نظرة مهذبة أرفقتها بالجواب "ما بعرف". فضحك الجمهور. وكانت المرة الأولى التي أرى فيها فيروز تضحَك وتُضحِك الحضور.

من قال إن فيروز لا تضحك؟ ولماذا هي تؤثر الصمت على الثرثرة؟ ولماذا هي شديدة الوقار؟ أدوارها في المسرحيات معظمها جديّة، وهي ليست ممثلة هزلية. ليست "بترا" ولا "غربة" في "جبال الصوان" ولا "عطر الليل" في "أيام فخر الدين" وسواها من الشخصيات الكوميدية، لكن في مختلف مسرحياتها، حين كان المشهد يحتمل النكتة، كانت فيروز تلقيها باحتراف. أما الصمت، فتكوين فيروز الشخصي لا يجعلها تميل إلى الثرثرة. وهي تتجنب اللقاءات الإعلامية التي تسعى إلى اقتفاء أسرار حياتها الخاصة. تجري المقابلات للحديث عن الجديد من مسرحياتها وأفلامها وأغانيها. وعليه، كان الصحافيون يتجنبون طرح بعض الأسئلة عليها من نوع: ما هو لونك المفضل؟ وأكلتك الأثيرة؟ والحكمة التي تؤمنين بها؟ أخذ عليها البعض أنها كانت تدع زوجها عاصي رحباني يجيب عن بعض الأسئلة المطروحة عليها. لكن عاصي بطبعه، ولاشعورياً، كان الناطق الرسمي في ديوان الأغنية الفيروزية الرحبانية. حتى منصور رحباني، الأديب والشاعر، كان في أحيان كثيرة يحيل السائل إلى أخيه: "اسألوا عاصي"!

وأما الضحك فأنا شاهد عليه. رأيت فيروز وسط الجمهور، تشاهد عرض "صرنا صلح" في مطعم "الإيبي كلوب" في بيروت. وكنت أنا مؤلف هذا العرض المسرحي، وهو من لون الشانسونييه الساخر. جاءت برفقة عائلة صديقة. ومن الكواليس حرصت على مراقبة ردود فعلها، وسعدت حين وجدتها تتجاوب مع النكات وتضحك بطلاقة وتصفق. ولاحظت أنها لا تكتفي بالضحك، بل تعلق بما يُضحك الآخرين. في استراحة بين المشاهد، رأيتها تهمس لمن معها ورأيتهم يضحكون. لم أسمع ما قالته، لكنه حتما قول ساخر.

المرة الثانية كانت في حلب، في صيف 1976. كنت أقدم مع فرقة من الفنانين اللبنانيين: أمال عفيش وأحمد الزين وألك خلف وكريم أبو شقرا، عروض الشانسونييه في مطعم الموغامبو. وبعد العرض كان البرنامج يكتمل بدءاً من منتصف الليل بوصلة غنائية يقدمها إيلي شويري. ذات ليلة طلب مني صاحب المطعم أن نغيّر البرنامج فيبدأ بالوصلة الغنائية على أن يقدم عرض الشانسونييه بعد منتصف الليل، لأن شخصية مهمة جداً ستحضر الليلة. رفض الإفصاح عن هوية هذه الشخصية،إلى أن اكتشفنا أنها فيروز. كانت تقدم حفلة غنائية في قلعة حلب، وبناء على طلبها تمّ تغيير البرنامج. كانت تحترم إيلي شويري وتقدّر موهبته، وتعرف أغانيه وسمعته مراراً، لكن كانت لديها الرغبة في الضحك. دوّت عاصفة من التصفيق لدى دخولها القاعة، يرافقها عاصي ومنصور وشقيقتها هدى ونصري شمس الدين. وبالمصادفة كان بين الحضور المغني فهد بلان وبرفقته الملحن سهيل عرفة ومنير الأحمد (نجل الشاعر بدوي الجبل)، وكان من كبار موظفي الإذاعة السورية، وانضم إليهم فيلمون وهبي.

بعد العرض رحّبتُ بها وبالفنانين أجمل ترحيب. ثم تراءى لي أن تكتمل هذه السهرة البهيجة، فدعوت فيلمون وهبي إلى الميكروفون. وبعد وصلة قصيرة، دعا فهد بلان، واستجاب بلطف وغنّى مقطعاً، ثم تولى هو دعوة نصري شمس الدين، فلبّى الدعوة وأطرب الجمهور بموال وبيت عتابا. ثم دوت عاصفة من التصفيق، كان الجمهور يرغب في سماع فيروز. فقلت لهم في الميكروفون "لو تكسرت أياديكم من فرط التصفيق، فهي لن تغني... أعرفها". فضحكت فيروز ضحكة كبيرة، واستمتع الجمهور بضحكتها.

طوال حياتها الفنية لم تغنِّ فيروز مرة في مطعم بحضور جمهور يأكل ويشرب. بعض الأسماء الكبيرة بدأ الغناء في المطاعم والملاهي، ثم أقلع عن هذه العادة بعد نمو شهرته. لكن فيروز من البداية وحتى يومنا هذا لا تغني إلا في مسرح، أو في مكان معدّ للغناء فقط، مثلما غنّت في قلعة بعلبك، أو في بترا أو بصرى الشام أو عند سفح الأهرامات.

إلى ذلك، تسنّى لي أن أكون مقيماً في الفندق نفسه في دمشق، وقد حلّت به فيروز والأخوين رحباني والفرقة الكاملة من المغنيات والمغنين والعازفين والكورس والراقصات والراقصين. أقامت لمدة شهر، لأن الحرب كانت ملتهبة في لبنان صيف 1976، ولم يتمكن الأخوان رحباني من إجراء البروفات في بيروت بسبب الحالة الأمنية، فأُجرِيَت في قاعة بالفندق. يومها سعدت بحضور بروفات على أغنية "بحبك يا لبنان يا وطني"، وقد غنتها فيروز يومذاك لأول مرة.

وعلمت أن فيروز والأخوين رحباني والفرقة اعتادوا الإقامة في الفندق ذلك منذ سنوات لدى حضورهم إلى العاصمة السورية لتقديم الحفلات. وكانت فيروز تقيم دائماً في الغرفة نفسها كل سنة. كانت إدارة الفندق تتهيأ لاستقبالها بحفاوة سنوياً. على الرغم من الإقامة في "فندق الشرق" (أوريان بالاس) نفسه، وكلانا من سكان الطابق الأول، لم ألتقِ بفيروز إلا لقاءات عابرة لدى مرورها ببهو الفندق. كانت قليلة الخروج. تستقبل الصديقات والأصدقاء في جناحها. تغادر الفندق وقت تقديم الحفلات، أو لدى توجهها مع الأخوين لزيارة عائلة صديقة، خصوصاً عائلة المحامي والمثقف نجاة قصاب حسن.

وكما في دمشق كذلك في بعلبك. حرصت فيروز دائماً على الإقامة في الفندق نفسه في بعلبك التي شهدت قلعتها العديد من حفلاتها. كانت إقامتها دائماً في فندق "بالميرا"، الذي تعرّض هذا الشهر للقصف خلال غارة إسرائيلية. حتماً مرّ شريط ذكريات الأيام الزاهرة في بال فيروز حين سمعت النبأ المحزن.

ومن باب الحرص على العادات، تجنّبت فيروز الإشادة برؤساء الدول في أغانيها التي كانت تقدمها في حفلاتها في مختلف الدول العربية. كانت تغني للبلد والناس فقط. وهي عادة درّبها عليها الأخوان رحباني، لكنها حرصت على الالتزام بها، حتى بعد الانفصال عنهما واستقلالها في اتخاذ القرارات الفنية الخاصة بها. وأذكر أنني كنت في زيارة إلى بغداد سنة 1978، بعد سنتين من إحياء فيروز ثلاث حفلات فيها، وغنت "بغداد والشعراء والصورُ". (قبل ذلك، زار فيصل الثاني ملك العراق بيروت في سنة 1954، غنّت فيروز قصيدة رحبانية أخرى اقتصرت على تحية العراق وشعبه، وفيها "حييتُ دجلة والأيام هانئة/ تغفو وتصحو على شاطيك أزمان"). يومها كنت مدعواً من مؤسسة السينما لكتابة سيناريو فيلم. حين عرف سائق المؤسسة أنني لبناني سألني إن كنت أحب فيروز، قلت طبعاً أعشق أغانيها. قال "أظن أنها متعجرفة"، فأعربت عن دهشتي الكبيرة وسألته من أين ساوره الظن؟ قال "كل ضيوف العراق من الفنانين يزورون السيد وزير الإعلام. فيروز ما راحت تسلم عليه". قلت له بسرعة "فيروز لا تذهب لزيارة أي مسؤول، حتى من هو أكبر من وزير".

تذكّرت هذه الواقعة حين قام رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون بزيارة فيروز في منزلها. هو توجّه إليها. فيروز تستقبل المسؤولين، ولا تسعى إليهم. يوم نقل التلفزيون وقائع الزيارة سمعتها ترحّب بالرئيس الفرنسي بلغته. وكانت المرة الثانية التي أسمعها تتكلم بالفرنسية. الأولى سنة 1988 في قاعة الاحتفالات في وزارة الثقافة في فرنسا، وكنت حاضراً يوم كرّمها الوزير جاك لانغ ومنحها باسم الدولة وساماً رفيعاً، وكانت فيروز قد أحيت في باريس حفلات غنائية ناجحة.

إلى فيروز في ذكرى مولدها: لك العمر المديد بإذن الله. مجد الأغنية أُعطِي لك.

المساهمون