فيديريكو فيليني: ما لا يمكن رؤيته

23 مارس 2021
يتطرق العمل إلى بداية رحلة فيليني مع التحليل النفسي (Getty)
+ الخط -

"أصبحت المبالغة مألوفة فصارت جزءاً من الذكرى، وذات يوم سلبني أحدهم تلك الذكرى قائلاً: إنّي قد كذبت. لقد أكدت دائماً أنّني إذا كنت كذّاباً، فأنا رجل صادق". بهذه الروح المخاتلة، تعامل المخرج الإيطالي الشهير فيديريكو فيليني مع أفلامه وشخصياته السينمائية، بالضبط كما يتعامل مع أكاذيبه، تلك التي خلقها من أحلامه وهواجسه طفلاً صغيراً، فتعوّد اللجوء إليها، هرباً من واقعه، طفلاً كبيراً.

وعلى مدى ما يقرب من 50 عاماً، قضاها "مايسترو السينما" متربّعاً على عرش تيار الواقعية السينمائية الجديدة، ليس في إيطاليا وحدها، بل في العالم أجمع، ظلّت أعمال فيليني أرشيفاً حيّاً لواقع الشارع الإيطالي ما بعد الحرب العالمية الثانية، هذا الواقع الذي عرّاه فيليني في أغلب أفلامه الأولى، وعلى رأسها رائعته "الشارع" عام 1954، كما لو كانت روحه تريد تعرية الحقائق التي طالما زيّفتها السينما في فترتها الرومانتيكية.

كان الرجل مولعاً بالرسم والقراءة والصحافة، قبل أن يكون مخرجاً لأفلامه السحرية، وهي التفاصيل التي حوّلها فيليني إلى مواد خام لأفلامه اللاحقة، وهو ما يثبته أحدث عمل وثائقي عن عالم "المايسترو" الماورائي والروحاني المعقّد، للمخرجة الإيطالية آنسيلما ديل أوليو Anselma Dell'Olio ، والذي ظهر مؤخراً تحت عنوان Fellini degli spiriti أو "فيليني الأرواح"، من إنتاج إيطالي/ فرنسي/ بلجيكي مشترك.

كان مولعاً بالرسم والقراءة والصحافة، قبل أن يكون مخرجاً لأفلامه السحرية، وهي التفاصيل التي حوّلها فيليني إلى مواد خام لأفلامه اللاحقة

صفعة على الوجه

يبحث الوثائقي، الذي يأتي في إطار الاحتفال بمرور 101 عام على مولد فيليني (1920 - 1993)، عن عالم الأحلام والأرواح الذي شغف به المخرج الإيطالي مبكّراً، وبدأ في دراسته بمساعدة المحلل النفسي "اليونغي" الألماني، إرنست برنارد Ernst Bernhard، الذي كشف أمام فيليني عن أسرار عالم اللاوعي والحياة الباطنية. ويدخلنا الوثائقي، منذ بدايته، إلى العديد من شهادات الأشخاص الذين كانوا على مقربة من عالم فيليني السحري: من تيري غيليام، الكاتب والممثل والمخرج الإنكليزي الذي كان فيليني يستشيره دائماً؛ إلى جوديتا ميشوشا Giuditta Mascioscia، رفيقة عمر المفكر والرسام الإيطالي غوستافو أدولفو رول، والذي اعتبره فيليني معلّمه الروحي الأهم، وصولاً إلى داميان شازيل، مخرج هوليوود الشاب وصاحب فيلم La La Land، والذي يقول: "لقد شكل لي فيلم ليالي كابيريا Le notti di Cabiria لفيليني عام 1957 صفعة على الوجه، رأيت فيه طريقة مختلفة تماماً لرواية الأفلام"، معبراً عن إعجابه بأسلوب فيليني في كيفية التعبير عن الظواهر غير الواقعية لشخصياته الحالمة، خصوصاً حين يجعلهم يطيرون في الهواء.

يعترف شازيل أنّه استخدم الأسلوب نفسه في أحد مشاهد فيلمه "لالا لاند"، حين جعل بطليه يطفوان في الهواء أثناء رقصتهما المشتركة. وبهذه الطريقة، يظل فيليني على قيد الحياة، رغم أنّه رحل عام 1993. أما ويليام فريدكين، المخرج الأميركي الحائز على 5 جوائز أوسكار، فيرى أنّ "كلاسيكيات فيليني مليئة بالسحر والأفكار التي لا يبدو أنّها تتماشى مع بعضها البعض، لكنّها تفعل ذلك في أيّ حال".

مفهوم الروح

بني الوثائقي، الذي امتد إلى الساعة والنصف، على عمودين أساسيين هما: بداية رحلة فيليني مع التحليل النفسي، وتعرّفه على إرنست برنارد (تلميذ كارل يونغ النجيب). والثاني سيطرة فكرة الموت على فيليني باعتبارها "ما بعد كلّ كائن حي" على حد تعبيره. وهنا تلجأ آنسيلما ديل أوليو، المخرجة المطّلعة على خبايا عوالم فيليني السينمائية، إذ شاركته كمساعدة مخرج في بعض أعماله الأخيرة، إلى تناول مفهوم الروح لدى فيليني، كما لمستها في شخصياته وأعماله السينمائية، وأيضاً من خلال ضيوفها من الشخصيات التي اقتربت من عالمه الشخصي والعملي، على حد سواء، في نسيج سلس من تتابع الشهادات التي تتخلّلها صور أرشيفية، تنشر أغلبها للمرة الأولى. هنا، تبرع المخرجة في تقديم "كولاج" من الرؤى الفكرية التي شكّلت نظرة فيليني إلى عالم الروحانيات والماورائيات، على طريقته السينمائية المعروفة عنه، وعبر مسارات لغوية أيقونية غير تقليدية، وغير متسلسلة بشكل منطقي. لذلك، يقسم الوثائقي إلى فصول تتطابق مع المخطط السداسي لكتاب إي-تشينغ I Ching الصيني، والمعروف باسم "كتاب التغيرات" أو "التحولات". وكان الصينيون يدرسون طرق التنبؤ بالغيب من خلال نصوص هذا الكتاب، ويعتبرونه قمة تراثهم الروحي، ويؤمنون بأنّ كلّ من فهم ما فيه من إشارات، سيدرك جميع القوانين الطبيعية، وهو ما آمن به فيليني في النصف الثاني من حياته.

بني الوثائقي الذي امتد إلى الساعة والنصف، على عمودين أساسيين هما: بداية رحلة فيليني مع التحليل النفسي، والثاني سيطرة فكرة الموت على فيليني باعتبارها "ما بعد كلّ كائن حي"

ما وراء الموجودات

تلقّى فيليني تعليماً كاثوليكياً يسهل وصفه بالمتزمّت، ما جعل الصبي أكثر فضولاً لاستكشاف الجانب الغيبي من هذه التعاليم. ولم يتوقف في حياته للبحث في معنى اللغز، أو العثور على تلك "الفتحة" التي تخترق الجدار في مكان ما بين عالمي الأحياء والأموات، للإعلان عن إيمان بشري في التعالي أو السمو عن فكرة الإنسان عن نفسه.

ربما، هذا بالتحديد، ما جعل فيليني يلجأ إلى هذه الطريقة الروحانية التي سيطرت على حياته وتصوراته عن العالم والموجودات وما ورائها. لذلك، بنيت مجريات الوثائقي على هذه المجموعة الثرية من شهادات المتعاونين والأصدقاء والنقاد والمخرجين الذين عرفوا فيليني عن قرب، ومن بين أبرزهم: فياميتا بروفيلي، المساعدة الشخصية لفيليني على مدى 13 عاماً، ومارينا سيراتو، صديقته لـ 32 عاماً، وآخرين ممن رافقوه العمل والحياة.  مثل: جيانفرانكو أنجيلوتشي، فينتشنزو موليكا، نيكولا بيوفاني، موليكا، أسسيون، إضافة إلى مقابلات أخرى مع الممثلات أنوك إيمي وليونورا روفو، تتخللها العديد من الشهادات النفسية عن الدور الكبير الذي لعبته نظريات برنارد ويونغ في تكوين أسلوب فيليني السينمائي.

سينما ودراما
التحديثات الحية

وهنا، تأتي مقاطع من أفلام فيليني، لتضم هذا المزيج المدهش من الآراء والشهادات، فيما يشبه خيطاً حريرياً داخل روحه الغامضة، لنرى مقاطع من أفلامه تظهر لنا هذا المزيج الحلمي والروحاني الذي كان مسيطراً عليه، تتخللها صور لرسومات فيليني الصحافية وتخطيطاته التي وضعها لمشاهد أفلامه ولقطات من حواراته المسجلة.

تركز المخرجة منذ البداية على جانب واحد من حياته، ألا وهو منطقة الغيبيات التي طالما أغرت المخرج العالمي بعوالمها المثيرة، إنها منطقة "المجهول"، أو كما سماها فيليني ذات مرّة: "ما لا يمكن رؤيته"، كما تتناول شغفه بالباطنية وعالم الأرواح والعرافة، وولعه المزمن بعوالم اللاوعي والأحلام والرموز والروحانية بشكل عام. مفترق طرق وإذا كان فيليني قد كتب ذات يوم في سيرته الذاتية "أنا فيليني" الصادرة في 1997 يقول: "إذا كنت أعرف شيئاً، فإني أعرف أني لا يمكن أن أكون شخصاً آخر"، فإن مخرجة الوثائقي تبدأ عملها من رمزية الحصان السائر حراً وسط السيارات في أفلام فيليني، باعتبارها مرادفاً للسفر، الذي لم يحبه فيليني أبداً، لأنه، كما قال في إحدى مقابلاته التلفزيونية ذات يوم: "لم أتغذ عليه منذ صغري". لذا، فإن العلاقة بين السفر وفيليني ظهرت في أعماله السينمائية كاستعارة لمفهوم الرحلة الفلسفية، فالرحلة لديه تتخذ معناها من المواد الصانعة لها (الأماكن، الأشخاص، والملابسات المحيطة بها).

وكما يوضح لنا الوثائقي، تنتشر هذه الرمزية للرحلة في أغلب أعماله السينمائية؛ ففي أحد مشاهد فيلم "الحياة حلوة" La dolce vita نرى آنيتا إكبيرغ Anita Ekberg وهي تسير واضعة على رأسها قطة بيضاء، قبل أن تصل إلى نافورة Trevi Fountain ومشهدها الخالد أمام ماستروياني. دائماً سنجد في أفلام فيليني مفترق طرق مستمراً لشخصياته السينمائية.

وحين يختارون أياً من هذه الطرق، تبدأ أمامنا ملحمته الخيالية عن هذه الشخصيات وعوالمها السحرية. هكذا، يستعيد الوثائقي أمامنا شغف فيليني بعوالم السحر والتنجيم والروحانيات، في سبيل إعادة بناء المشهد من جديد، من خلال ما يرويه الآخرون عنه، إلى الدرجة التي تنشأ عنها هالة من الغموض والسحر حول حياة الرجل وأرواحه المتعددة التي ظهرت في أفلامه، وكأن صناع الوثائقي يطرحون أمامنا أسئلتهم الشخصية عن المخرج الحالم: ماذا كان يعتقد؟ بأي شعور واجه الحياة؟ ما هي الأجوبة التي كان يبحث عنها؟ تلك المَلكة النادرة من مزيج هذه الشهادات والاعترافات، نفهم أنّ الإيمان لدى فيليني كان مثل السحر، فهو "راحة ودعم" أكثر من كونه شاطئاً آمناً، كان فيليني رجلاً يبحث عن نفسه، وكان قادراً على ملء حياته روحانياً ولو عن طريق الخيال، وذلك بفضل ديانته السحرية الخاصة، التي جعلته على اتصال مع البعد الروحاني الأعمق داخل طفولته.

فيليني : كلّ إنسان يعيش في عالمه المتخيّل، لكنّ معظم الناس لا يعون ذلك. لا أحد يدرك عالم الواقع، وكلٌّ يعتبر، في بساطة، أنّ تخيّلاته الشخصية هي الحقيقة

ومن هنا، ولدت أفلامه التي كانت بالنسبة له -ولنا- وسيلة للإيحاء الروحي. لهذا بالضبط، وكما يقول جيانلوكا فارينيلي في شهادته: "ليس هناك شك في أنّ فيليني كان صوفياً أو ساحراً، كان يعرف كيف يغوص داخل أعماق الناس، وكانت لديه تلك المَلكة النادرة لقراءة الروح البشرية وتلمّس نقاط ضعفها. ولأنّه كان مولعاً بالبحث الدائم عمّا وراء المظهر الخارجي، كانت أفلامه عبارة عن جلسات جماعية في منتصف الطريق بين التحليل النفسي والسحر".

ربما لن يجد المتابع الجيد لأعمال وسيرة حياة فيليني شيئاً جديداً في هذا الوثائقي المكثف عن حياته الروحانية، لكن المؤكد أن العمل يعيد إلى أذهاننا من جديد أسطورة أحد أهم صناع السينما في العالم، هو الذي كتب ذات يوم في سيرته الذاتية يقول: "كلّ إنسان يعيش في عالمه المتخيّل، لكنّ معظم الناس لا يعون ذلك. لا أحد يدرك عالم الواقع، وكلٌّ يعتبر، في بساطة، أنّ تخيّلاته الشخصية هي الحقيقة. الفرق بين الآخرين وبيني، هو أنّي أعرف أنّني أعيش في عالم متخيّل، وأفضّله على هذا النحو، وأستاء من أيّ شيء يشوش رؤياي".

المساهمون