استمع إلى الملخص
- تكريم الأميركية كيرستن جونسون والصربية ميلا تورايليتش يبرز أهمية أعمالهما في السينما الوثائقية، مع التركيز على قصص إنسانية والإرث الثقافي والتاريخي.
- الدورة الـ15 تُظهر اهتمام المهرجان بالنضال من أجل الحرية والتطورات في الرياضة النسائية بالمغرب وأفريقيا، مؤكدةً على دور السينما كأداة للتوثيق والتعبير.
هناك أشياء تنبئ بأنّ لمهرجان روحاً تمتح من السينما والشغف بها: تطلّب برمجته، الظروف التقنية الجيدة للعروض، قيمة ضيوفه والأنشطة التي يشرفون عليها، توفّره على تصوّر ناظمٍ لأنشطته، رؤية بعيدة المدى، وخاصةً وقعه على السينمائيين المبتدئين الشباب، الذين يتلمّسون خطواتهم الأولى، أو الصاعدين، ومساهمته في صقل نظرتهم، وتطوير مشاريعهم، وإخراجها إلى النور.
أشياءٌ لا تُصادفها كثيراً في المهرجانات السينمائية، لكنّها تكاد تتحقّق كلّها في "المهرجان الدولي للسينما الوثائقية بأكادير (فيدادوك)"، بإشراف رئيسته هند السايح، ومندوبه العام هشام فلاح، الذي أكّد افتخار المهرجان بنجاحات "الخلية الوثائقية"، التي ترافق مشاريع شباب حقّقوا نجاحات ساطعة في الفترة الأخيرة، كالمغربيَّين أسماء المدير وعدنان بركة، "منذ الفترة التي كانت فيها مشاريعهما مجرّد حلم، ولم يكن أحدٌ مهتمّاً بها". إضافة إلى تألّق أسماء مواظبة على حضور "فيدادوك"، كالفرنسية ـ الجزائرية لينا سويلم (باي باي طبريا)، والكونغولي نيلسون ماكينغو (Tongo Saa).
تكريمان وخلية عمل
هذا جليٌّ منذ إعلان برمجة الدورة الـ15 (7 ـ 12 يونيو/حزيران 2024): 21 فيلماً من 24 دولة مُساهمة في الإنتاج، منها 11 فيلماً طويلاً، جُلّها رفيعة المستوى (المسابقة الرسمية)، و3 في بانوراما مغربية، منها الجميل "أفضل" لكمال أورحو، عن التزلّج اللوحي في حديقة خاصة بهذه الرياضة الشبابية في قرية "تغازوت". إضافة إلى فيلمين لكلّ من الأميركية كيرستن جونسون بمناسبة تكريمها، والصربية ميلا تورايليتش باعتبارها عرّابة النسخة الـ12 لـ"الخلية الوثائقية".
تميّزت الدورة أيضاً بمنح مكانة لفيلمين يُمثّلان نضال الغزّاويين والفلسطينيين عامة لتحقيق حريتهم، ما يعكس انتباه المهرجان إلى القضايا الإنسانية الراهنة، وحرصه على التفكير بها ونقاشها.
افتُتحت الدورة الـ15 بـ"طريق السينما كورة": برنامج عروض متنقّلة خُصّص هذه السنة بكرة القدم النسوية (الملصق صورة لاعبتين من النادي البلدي لمدينة العيون لأقلّ من 17 سنة). عُرض وثائقي بعنوان "غراسيا، منقذة بانغي"، لليلى نديي تيام، شابة من أفريقيا الوسطى، شاركت في "الخلية الوثائقية" سنة 2016. لفتةٌ تُسلّط الضوء على التطوّرات المتسارعة التي تشهدها الرياضة النسائية في المغرب وأفريقيا، وتُثمّن تأثيرها الاجتماعي الإيجابي، باعتبار أنّ كرة القدم، كالسينما، تشكّل وسيلة انفتاح واسترشاد للمرأة الأفريقية.
شكّلت لحظة تكريم جونسون، التي حضرت جُلّ أنشطة المهرجان بقميصٍ فيه ألوان العلم الفلسطيني، اعترافاً بمخرجة كبيرة، وشخصية رائعة ذات طاقة استثنائية ومُعدية، كهربت الدورة الـ15، وبماضيها مديرة تصوير أضاءت ريبورتاجات آسرة وأفلاماً وثائقية عدّة، منها فيلما لورا بويترَس "سيتيزن فور" (2014) و"القسم" (2010). حملت كاميرتها عقوداً لتوثيق مآسي وقصصاً إنسانية في العالم؛ أهمها تسجيل آثار المجازر المرتكبة في "فوكا" البوسنية، أثناء حروب البلقان في تسعينيات القرن الـ20، وقصص من السودان وأفغانستان واليمن ورواندا، وغيرها. وهذا في فيلمها الفريد "كاميرا بيرسون" (2016): قصيدة سينمائية فسيفسائية، تجمع عشرات اللقطات التي صوّرتها، سواء وجدت طريقها إلى المونتاج النهائي أم لا، وحتى لحظات استراحة ظلّت الكاميرا فيها تدور، لكنّها طبعت المخرجة بطريقة ما، في حياتها الخاصة (إصابة والدتها بألزهايمر، ثم وفاتها)، أو علاقتها بالعالم.
عملٌ كبير، يدين بالكثير لقدرة المونتاج الهائلة على خلق تناسق داخل ما يبدو، لوهلة أولى، فوضى، بتجميع تيمات الإرهاب أو المعتقدات الدينية أو الجرائم ضد الإنسانية تارة، وتوليف ينحو إلى موتيفات شكلية، كلقطات المتابعة في المشي، تارة أخرى. خلقٌ لمعنى من داخل شتاتٍ، يُكثّف وحدة المعاناة في العالم، ويستجلي قدرة الإنسان على مجابهة التحدّيات، والصمود في وجه ما لا يُحتَمل.
"كوني حذرة"
في لقطة افتتاحية، مستقاة من مادة "ديرّيدا" (2002)، لكيربي ديك وإيمي كوفمان، عن الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا، يستدير الأخير نحو جونسون، التي تتبعه بالكاميرا وهما يعبران شارعاً مزدحماً بالسيارات، قائلاً: "كوني حذرة. تظنّين أنّك ترين كلّ شيء بكاميراك، لكنّك عمياء، كالفيلسوف الذي ينظر إلى النجوم فيسقط في البئر".
رهانات النظر المعقّدة أثناء تصوير الشريط الوثائقي، والمفارقات الأخلاقية التي يطرحها، من أهمّ النقاط التي أثارتها جونسون في "ماستركلاس" غير اعتيادية، أصرّت فيه على هدم الجدار الرابع مع الحاضرين، والإشراف على تمارين كالنظر لمدة دقيقة في عينَي شخصٍ غريب، باعتبارها محاكاة للصعوبة (توازي النظر في هاويتك الخاصة)، والمسؤولية الجسيمة التي ينطوي عليها الذهاب إلى الآخر للتعرّف عليه، ورواية قصّته في فيلمٍ وثائقي.
منحت جونسون، في تقديم عرض فيلمها الأخير "ديك جونسون مات" (2020)، عن والدها، ترخيصاً للحاضرين بالضحك بحرية على كلّ شيء، في استشرافٍ لمفارقة السخرية من الموت، التي تقع في قلب طرحها. يلتقط الفيلم فترة تقاعد الأب من عمله طبيباً نفسيّاً، ثم بداية معاناته مع ضعف الذاكرة، وتصادي ذلك مع ذكرى وفاة زوجته غير البعيدة. بورتريه تقعيري، ينجح في التقاط شخصية فريدة بتصوير لقطاتٍ تتخيّل سيناريوهات مضحكة عن موتها (سكتة قلبية، وقوع على الدرج، سقوط طابعة من مكتب شاهق، إلخ)، ومشاهد حالمة تتصوّر ديك جونسون وهو ينعم في جنان السماء. عملٌ جميل عن الحبّ الذي يجمع الجدّ بابنته وأحفاده، يقارع شمولية فكرة الرحيل عن الدنيا. حفاظ المخرجة على قدر كبير من التطلّب، رغم أنّ الفيلم من إنتاج "نتفليكس"، يحمل دلالة كبيرة عن قدرتها على التشبّث باستقلاليتها، حتى داخل أكثر النماذج تنميطاً وتسطيحاً.
أرشيف تاريخي
حسناً فعل هشام فلاح باختيار ميلا تورايليتش (Cinema Komunisto، المنجز عام 2011) عرّابة "الخلية الوثائقية"، نظراً إلى الأهمية البالغة التي يمثّلها اشتغالها اليوم، في زمن التعمية الناجمة من وفرة الصُور وسطوة الراهن والزائل، على الإرث الثقيل لصُور، خلّفته الجمهورية اليوغوسلافية قبل "اختفائها من الخريطة، وباقي الرموز الرسمية، لكنّها تظلّ قائمة في القلوب"، كما قالت المخرجة الصربية. يتبدّى ذلك في ثنائية فيلمية آسرة، بُرمج عرضها تباعاً في "فيدادوك 15"، تتكوّن من "مشاهد من أرشيف لابودوفيتش: دول عدم الانحياز" (2022) و"مشاهد من أرشيف لابودوفيتش: السينما الفدائية" (2020).
اشتغل ستيفان لابودوفيتش (1926 ـ 2017) تقنيّ كاميرا للأخبار السينمائية (Filmske novosti) لدولة يوغوسلافيا، مُصوّراً، في 40 عاماً، 56 تنقّلاً للرئيس جوزِب بروز تيتو إلى الخارج، فأضحى يُعرف بـ"كاميرامان تيتو". الأرشيف الذي صوّره ظلّ مُهملاً في الأقبية، قبل أنْ تنفض تورايليتش الغبار عنه، وتستغلّه لسرد قصص عن ماضي يوغوسلافيا وشعوب أخرى كالجزائر، التي لم تكن تتوفّر آنذاك على قدرة تصوير حربها للتحرّر من الاستعمار الفرنسي، فلجأت إلى لابودوفيتش.
"دول عدم الانحياز" وثائقي أرشيفي رائع، يحاكي "ثريلر" سياسي لإنجاز تحقيق في أسباب فشل ما كان يُطلق عليه دول العالم الثالث، مباشرة بعد خروجها من سطوة الاستعمار، في نهاية خمسينيات القرن الـ20 وبداية ستينياته، في إقامة يوتوبيا تجمّع بديل لقطبية الشرق والغرب. تزيح تورايليتش كلّ لبس عن سؤال "ماذا جرى؟"، ومعه أيّ تشويق حين تعلن عن فشل المشروع منذ البداية، ثمّ تقوم بـ"فلاش باك" لتجيب عن سؤال مهمّ: في أي ظروف نشأ حلم "تجمّع دول عدم الانحياز"، وكيف أُجهز عليه؟
يتقدّم الفيلم على نغمات موسيقى مُحمّسة، ألفها الفرنسي جوناثان مورالي، على خلفية صُور بالغة التأثير لجماهير غفيرة، خرجت في أثوابٍ تعكس فقرها لتلقي تحية عفوية على قادتها، وهم يستقبلون تيتو في كلّ المحطات التي زارها، للترويج لقمة "دول عدم الانحياز"، في مصر وغانا وإندونيسيا. صورٌ تفسح المجال لتخيّل الخيبة التي أصابت آمالاً واسعة، كانت معقودة على هذه الخطوة، لتحقيق قيم الحق والعدالة الاجتماعية، بفعل تضافر مؤثّرات داخلية تتعلّق بانقلاب الديكتاتوريات على الإرادة الشعبية، وإمبريالية سعت، ولا تزال، إلى إفشال مخطّطات التنمية والتجمّع، لاستدامة التحكّم واستغلال ثروات الشعوب.
ككل الأفلام التاريخية الناجحة، يضيء "دول عدم الانحياز" الحاضر، حين يلتقط مشاهدَ زيارة المخرجة مقرّ الأمم المتحدة، تحيل إلى عجز هذه الأخيرة، وتحوّلها إلى منظمات بيروقراطية وصورية، لا تتجاوز تسجيل المواقف والترويج لأيديولوجيا التسليع (لقطة معبّرة لمتجر هدايا)، مقارنة بحماسة البدايات وسخونة النقاشات أواسط القرن الماضي، واضمحلال الآمال المعقود عليها لشعوب العالم.
أمّا "السينما الفدائية"، فتحكي فصلاً لم يُروَ من تاريخ السينما المضادة للكولونيالية، انطلاقاً من صُور للابودوفيتش عن حرب التحرير الجزائرية، بتكليف من تيتو، مساهمة منه في دعم طموح الجزائريين للاستقلال، والصُور تُقدّم على الشاشة الكبرى للمرّة الأولى. يتتبع الفيلم تدرّج المُصوّر في كسب ثقة قادة الجيش، في الجانب الآخر من الحدود التونسية، ثم التحاقه بميدان المعارك لتصوير الجرحى المحمولين من جبهة القتال، وأخيراً يلتقط مشاهد اشتباك كاد يلقى حتفه في توثيقها. يوضح، في مشاهد صوّرتها تورايليتش في متجر قبعات قرب منزله في بلغراد، كيف أنّ رصاصة اخترقت طرف قبعة يعتمرها، توجد الآن في متحف المجاهد في العاصمة الجزائرية.
ينتهي الفيلم بصور تجمع لابودوفيتش بيافعين جزائريين في المتحف نفسه، بعدما رافقته المخرجة في زيارة أخيرة إلى البلد الذي وثّق نضالاته في 85 كيلومتراً من الأشرطة، في ثلاث سنوات. لكنّ أجمل لحظات الفيلم تلك التي تقارب ميكانيزمات البروباغندا اليوغوسلافية، التي توضح في رسائل مُفصّلة وموجّهة إلى لابودوفيتش، كيفية إخراج مشاهد تتسامى بصُور الكفاح الجزائري، في مواجهة البروباغندا الفرنسية التي اختلقت صُوراً كاذبة لما سمّتها "مهمة حضارية"، تخفي ممارسات القتل والتعذيب التي كانت تنتهجها.