"فن" التزوير... لعبة الوثائق الخطيرة

20 يناير 2023
أدولفو كامينسكي وابنته سارة (ليوناردو كيندامو/ Getty)
+ الخط -

رحل المصور الفرنسي أدولفو كامينسكي عن 97 عاماً، في يناير/كانون الثاني الحالي. شهرة الرجل لم تأت من كونه مصوراً وأستاذاً جامعياً، فكامينسكي انضم إلى المقاومة الفرنسية ضد النازيين في سن الـ17. وبعد نجاته من الترحيل إلى مخيم احتجاز لأنه يهودي، قضي سنوات الحرب العالميّة مزوّراً للأوراق الرسميّة، ليساعد اليهود على الفرار، إذ طور تقنيّة مكنته من إنقاذ 14 ألف يهودي من الموت.

لم يتقاض كامينسكي أجراً مقابل "عمله" هذا. وحين طُرد النازيون من فرنسا، قُلد ميدالية المقاومة، وعمل مع السلطات الفرنسية في تزوير أوراق رسميّة للجواسيس.

مواقف كامينسكي المنتقدة لإسرائيل جعلته موضع جدل، ناهيك عن عمله مع جبهة تحرير الجزائر، إذ زور "فرنكات" فرنسيّة لصالحهم، كما عمل مع حركات المقاومة في أميركا الجنوبية، وبقي يمارس "عمله" هذا حتى عام 1971.

ما يهمنا في سيرة كامينسكي هو حرفة التزوير، تلك التي تتلاشى تدريجياً بسبب التطور التكنولوجي الحالي، فجوازات السفر وبطاقات الهويّة لم تعد فقط "علامات جماليّة" تشير إلى الانتماء السياسي، بل تحوي تكنولوجيا تتيح أحياناً تتبع حاملها من قبل السلطات.

لا يعني ذلك تلاشي هذه المهنة. تتسرب الأخبار دائماً عن تزوير وثائق من أجل انتحال الهويّة، وإصدار أخرى مزورة لخداع السلطات، كالضابط الألماني الذي انتحل هوية لاجئ سوري العام الماضي. لكن، تبقى عمليات التزوير هذه أقرب إلى المحاولات الفردية أكثر من كونها جهداً لإنقاذ حياة أفراد، ناهيك أن "الأخبار" عن المزورين شديدة الندرة.

دخل التزوير سياق الفن، أي جرى إنتاج "وثائق" مزورة لأغراض فنيّة. ولا نقصد وثائق ملكية عمل فنيّ أو ما يشابهه، بل إنتاج وثائق زائفة لغرض فني، هذه الوثائق قد تمتلك قيمة واقعية، أي يمكن تقديمها رسمياً إلى الجهات المختصة، كحالة الوثائق التي تنتج بعد مسرحيات السويسري ميلو راو، سواء كنا نتحدث عن العريضة التي وقعت أثناء مسرحية "أوريست في الموصل"، أو جلسات المحاكم الوهمية التي أقامها تحت اسم "محاكمات زيورخ".

يمتد التزوير أبعد من ذلك، كادعاءات كريستوفر كولومبوس بأنه شاهد "حوريات البحر"، أو خرائط القرن السادس عشر المزوّرة التي تدعي وجود "مضيق أنيان" الذي يصل المحيط الهادئ بالمحيط المتجمد الشمالي.

الوثيقة المزورة، في هذا السياق، لا تسعى إلى إنقاذ حياة البشر كما فعل كامينسكي، بل ترسيخ سرديّة تاريخيّة، أو حتى حقيقة متخيّلة، كالصور الفوتوغرافية التي زوّرت نهاية الثمانينيات في بلجيكا على يد باتريك مارشال الذي أراد أن يثبت وجود صحون طائرة وكائنات فضائيّة.

تزوير الهوية أو انتحالها حالياً، في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح أشد تعقيداً وأكثر خطراً. خطأ واحد ارتكبه إيلون ماسك دفع أحدهم إلى انتحال حساب شركة Eli lilly الدوائية، وكتابة تغريدة تقول إن الإنسولين مجاني، ما أدى إلى خسارة الشركة مئات الملايين من الدولارات.

"الهوية" لم تعد مجرد قطعة جمالية تثبت خلفية الشخص وخصائصه الجسدية. الهوية الإلكترونية أصبحت مجرد شيفرات يمكن التلاعب بها، وأحياناً يمكن للهواة تصميمها لأجل الانتقام أو اللعب، وهناك دوماً خسارة ماليّة، ما من هدف إنسانيّ وراءها.

ترتبط أزمة التزوير بحرية التعبير. منذ القرن السابع عشر، بدأ الجدل حول حرية النشر والطباعة، وهل يجب تقنين ما يمكن "نشره" أو لا وهل يعتبر التزوير جزءاً من حرية النشر أم جريمة لا بد من العقاب عليها، خصوصاً أمام جرائم الكراهية والتحريض على العنف التي بدأت منذ تزوير كتب عن "الساحرات" بهدف "صيد" النساء، حتى نشر معلومات زائفة على الإنترنت. بصورة أخرى، إن سؤال التزوير والكذب يختبر حدود حرية التعبير، والأهم القدرة على الخداع، خصوصاً أن "الوثيقة"، كمفهوم، تفترض الحقيقة، ومهارة إنتاجها تزيد قدرتها على الإقناع وتحريك من يصدقها نحو العنف أحياناً.

المساهمون