رافق كلُّ ظهور للمخرج الألماني فيم فندرز مع ذِكرٍ للمخرج الياباني الأسطورة يوساجيرو أوزو. المكان طوكيو، في الدورة الـ36 (23 أكتوبر/تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لمهرجانها السينمائي، الذي احتفل هذا العام بالذكرى الـ120 لولادة أبي السينما اليابانية، والستين لرحيله. كان حدثاً من أبرز أحداث الدورة، لما قدّمه من عروض لأفلامٍ مرمّمة لأوزو، وأخرى غير معروفة كثيراً، مع ندوات ونشاطات ذكّرت كلّها بعظمة هذا المخرج، وبدوره المؤسِّس الذي قامت على أكتافه سينما تتناقلها الأجيال.
تربط فيم فندرز، المشهور بأفلامٍ كـ"باريس، تكساس" (1984) و"أجنحة الرغبة" (1987)، علاقة خاصة باليابان. فيلمه الأخير، "يوم مثالي" (2023)، المعروض في افتتاح هذه الدورة، صَوّره كلّه في طوكيو، مع ممثلين يابانيين. بطله الرئيسي ياكوشو كوجي فاز بجائزة التمثيل في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ". قبل قدومه إلى طوكيو، لرئاسة لجنة التحكيم، نشرت إدارة المهرجان رسالة لفندرز، أعلن فيها أنّ كون دورة هذا العام تأتي بعد 60 عاماً على وفاة "مُعلّمه المُعلن"، و120 عاماً على ولادته، يجعل المناسبة "خاصة جداً" له. ظهر المخرج الألماني أيضاً في فيديو بعنوان "فندرز يتحدّث عن أوزو" (8 د.)، يقول في بدايته أنّ سينما أوزو "عالمية حقّاً"، وأنّ أفلامه تتميّز بشيء خاص جداً، وأنّها ليست جزءاً من إمبراطورية الحواس الأميركية، لأنّها "إمبراطورية قائمة بحدّ ذاتها". وعبّر عن سعادته لرؤية أفلامٍ كثيرة له، واستعادة أخرى ستبدو كما عندما عرضت في يومها الأول (بفضل الترميم)، وأنّه يستطيع مشاهدة أفلامه كلّ يومٍ.
وجهة نظر فندرز تبدو مُدهشة ومهمّة في إعادة التعريف بإرث أوزو وأفلامه، التي يصفها بأنّها "سينما معاصرة تماماً، لأنّها لا تزال توضح لنا كيف يمكننا أنْ نعيش اليوم"، مُشيراً إلى "اهتمامها بالتفاصيل بكلّ اعتناء"، مع احترامٍ لليابان. ويُظهر فندرز أيضاً كيف كانت أعمال أوزو جذّابة لصانعي الأفلام الآخرين، ويبحث في سبب تبنّي قصصه المروية، التي يُنظَر إليها على أنّها يابانية نموذجية، ومع هذا سحرت بقية العالم.
أنهى فندرز إشادته بالتأكيد، مجدّداً، على أنّ أعمال أوزو "سينما عالمية مثالية، لكونها يابانية للغاية". أجريت المقابلة معه في برلين، وأخرج الفيديو تاكاساكي تاكوما، الذي كتب السيناريو وعمل في إنتاج "يوم مثالي". عُرض في الدورة الجديدة فيلم وثائقي قصير عن أوزو، قرأ فيه الممثل ياكوشو كوجي، بصوت جذّاب رخيمٍ وأسلوب هادئ في الإلقاء، جُملاً تصف أعمال أوزو، جاءت كالشعر. وصف مشاهد أفلامه وتأطيراتها، في الداخل (غرفٌ في حدّ أدنى من الديكور) والخارج (مداخن وقطار)، بينما كانت تظهر على الشاشة مقاطع من أفلام أوزو، ومنها أحد أشهر الوجوه في سينماه، والأجمل بابتسامتها المُشعّة الآسرة: سيستوكو هارا. وفقاً للفيلم، أنتج أوزو "أفلاماً مماثلة مراراً"، وأمضى حياته "في ابتكارها وإتقانها".
الفيلمان عُرضا في برنامج "أكتاف العمالقة"، الخاص بأوزو. كأنّهما يشيران إلى أنّنا جميعاً نقف على تقاليد وتاريخ عباقرة السينما الآخرين.
حين قدِم فندرز إلى حفلة الافتتاح، أعلن عن سعادته بوجوده في هذه المناسبة. وفي كلمته في افتتاح ندوة عن أعمال أوزو، بمشاركة 3 مخرجين عالميين: الياباني كوروساوا كيوشي، والصيني جيا تشانغكي، والأميركية كيلي ريتشارد، وصف الألماني أوزو بأنّه "العظيم والوحيد المعلّم"، ودعا الجمهور إلى مشاهدة كلّ ما يستطيعون من أفلامه الـ16 في المهرجان. وفي نصٍ له منشور في مجلة المهرجان، تحدث عن المرة الأولى التي أتى فيها إلى المهرجان، منذ 30 عاماً، وكان عمر المهرجان 6 أعوام، وهو لم يبلغ 50 عاماً. إنّه اليوم سعيد بالعودة، "فما أحلى أنْ أشاهد فيلمين يومياً، وأناقش الزملاء، وأتجوّل بعض الوقت في طوكيو وأتناول طعامي المفضّل، وأشاهد فيلم الافتتاح الذي صوّرته بكلّه في منطقة شيبويا في طوكيو. هذا يعني لي الكثير".
وعن احتفال المهرجان بذكرى أوزو، قال إنّه، حين أتى عام 1993، كان الاحتفال بذكرى ميلاد أوزو، وأنّه شاهد حينها كلّ المعروض في الاستعادة. لكنّ الأمر يبدو مُذهلاً هذه السنة، لوجود أفلامٍ مُرمّمة حديثاً، ومُحوّلة إلى النظام الرقمي. لا سيما أنّ بعضها لم يكن مُتوفّراً لعقود، خاصة في الغرب، لأنّ أوزو كان يُعتبر حينها "يابانياً جداً" بالنسبة إلى الأجانب.
فندرز كان متأثراً ومبتهجاً، لأنه سيشاهد أفلاماً لم يشاهدها قبلاً. فأوزو "أعظم مخرج في القرن العشرين". وتذكّر زيارته الأولى إلى طوكيو (1977)، حيث أمضى أياماً عدّة في "المعهد الياباني للفيلم" ليشاهد أفلام "مُعلّمه المُعلن". كان لوحده من دون مُترجم ولا ترجمة. كان يضع بنفسه بكرات الأفلام، التي يصل عددها إلى 4 أو 5 لكلّ فيلم، ويوقف المُشاهدة أحياناً، ويأخذ كاميرا "بولارويد" ليُصوّر تلك اللحظات. لم يكن يفهم اللغة اليابانية، لذا كان الحوار يفوته. مع هذا، وجد نفسه بعد فترة مُنخرطاً تماماً في عالم أوزو، إلى درجة نسيانه أنّه لم يكن يفهم اللغة.
"حسناً. الآن أفهم اللغة"، يقول. "إنّها لغة عالمية، وكانت اللغة العالمية للعائلة، عائلتي الخاصة أيضاً. إنّها تتجاوز كلّ العائلات". منذ ذلك الحين، كلّما يعود إلى اليابان، يشعر "قليلاً "كأنّه يعود إلى المنزل.