بعد ما يقرب من عشر سنوات على صدور سيرته الذاتية "سجلَّات" (Chronicles) في 2014، وبعد سبع سنوات من حصوله على جائزة نوبل في الآداب لعام 2016، والتي أصابت متابعي الجائزة بخيبة أمل في الأكاديمية السويدية نفسها آنذاك، يعود نجم الغناء الأميركي، بوب ديلان وهو في الـ81 من عمره (مواليد 1941) إلى الكتابة من جديد، ولكن هذه المرّة عبر كتاب يرصد فيه 66 أغنية من أبرز الأغاني الشعبية الأميركية في الخمسينيات، تحت عنوان "فلسفة الأغنية الحديثة".
في العقد الأول من هذا القرن، قدّم بوب ديلان برنامجًا إذاعيًا ناجحًا بمصاحبة الناقد الإذاعي إيدي غوروديتسكي، حمل عنوان Theme Time. وعبر هذه الساعة الإذاعية الأسبوعية، ناقش ديلان عشرات الأغنيات القديمة، وغناها. ولذلك، يعتبر أن كتابه الجديد ثمرة لهذا البرنامج، ويذيّل كتابه بشكر عميق إلى صديقه العزيز و"رفيقه في الصيد"، غوروديتسكي. لكن ديلان يشير في موضع آخر من مقدّمته للكتاب، إلى أنه بدأ الاشتغال على الفكرة منذ عام 2010، واليوم يصدر العمل مكتملًا في 352 صفحة، ليؤكّد ديلان من جديد اطلاعه الواسع والعميق على تاريخ تطوّر الأغنية الأميركية في القرن العشرين.
كتب بوب ديلان في سيرته الذاتية "سجلّات"، شارحًا علاقته بالأغاني التي كبر عليها فترة الخمسينيات من القرن الماضي قائلًا: "كانت الأغاني بالنسبة لي أكثر أهمية من مجرّد الترفيه الخفيف. لقد كانت معلّمي ومرشدي إلى وعي مغاير للواقع، الغناء في ذلك الزمن كان جمهوريتنا المحرّرة". وفي حديثه لمجلة ذا نيوزويك عام 1997 احتفالًا بنجاح ألبومه Time Out Of Mind المدوّي آنذاك، كان ديلان واضحًا حين قال: "الحقيقة القاطعة هي أنّني أجد التديّن والفلسفة في الموسيقى، ولا أجده في أي مكان آخر". المعنى نفسه سيكرّره لاحقًا في حواره لصحيفة نيويورك تايمز من نفس العام: "تلك الأغاني القديمة هي معجمي وكتاب الصلاة الخاص بي. كل معتقداتي وفلسفتي في الحياة استمدّها من تلك الأغاني القديمة".
يكتب بوب ديلان عبر هذه القطع النثرية أفكاره حول الأغاني التي يناقشها، انطباعاته وتأويلاته للنص المكتوب، ورأيه في البناء الموسيقي والأداء الغنائي للمؤدّي، وتنقسم كل قطعة إلى جزأين؛ في الأول، يضع ديلان نفسه في موقع الشخصية الرئيسية للأغنية، ويطلق العنان لمخيّلته، وهو ما ينتج عنه أفكار وشحنات وشطحات شعرية، لا علاقة لها بالنص المغنّى في كثير من الأحيان، باستثناء أن كاتبها هو بوب ديلان. فهو يتوقف مثلًا أمام أغنية My generation لفرقة The Who معتبرًا إياها "رثاء رجل عجوز يعيش في مركز لرعاية المسنّين، متذمّرًا من أنّ جيله كان الأفضل". لكن هذا بالضبط ما نشعر به حيال بوب ديلان نفسه في الجزء الثاني من مقالاته، والتي يتحدّث فيها عن الفنانين أنفسهم، مستعرضًا تاريخهم الشخصي وأهم المحطّات في مسيرتهم الفنية، فنشعر به كأنه "رجل عجوز يجلس في مركز لرعاية المسنّين، متذمّرًا من أن جيله كان الأفضل".
كذلك، لن نجد بوب ديلان في كتابه الجديد يتردّد في الكتابة بنبرة معنّفة، مقدّمًا النصائح لأولئك المشكّكين في أن أميركا لم تكن أبدًا عظيمة كما كانوا يتصوّرونها في السابق، فيقول مثلًا عن أغنية Feel So Good لـ سوني بورغس: "إذا كنت تريد الاستماع إلى سجل سياسي، قم بتشغيل هذه الأغنية، إذا كنت تتساءل عما حدث للبلد الضائع والرائع الذي نشأت أنا فيه، فاستمع إلى هذه الأغنية، وإذا أردت أن تجعل أميركا عظيمة مرة أخرى، فربما تعطيك هذه الأغنية فكرة عمّا يجب فعله".
تمتد رؤية ديلان في تأريخه لـ"فلسفة الأغنية الحديثة" من أعمال العديد من مشاهير الغناء الأميركي في الخمسينيات وما قبلها، على رأسهم: ستيفن فوستر وإلفيس كوستيلو، وهانك ويليامز ونينا سيمون، محللًا ما يسمّيه "فخ القوافي السهلة". ويفسّر كيف أنّ إضافة مقطع لفظي واحد يمكن أن يقلّل من تأثير الأغنية، وبينما يتحدّث ظاهريًا عن الموسيقى وتاريخ الأغنية الأميركية، فإنه في الحقيقة يكشف عن كثير من قناعاته الموسيقية والحياتية، فها هو يصدم كثيرين من متابعيه حين يكتب بصراحة عن اعتقاده بضرورة سنّ قوانين جديدة تتيح تعدّد الزوجات. حدث هذا في معرض حديثه عن أغنية جوني تيلور المعنونة Cheaper To Keep Her. يكتب ديلان: "الزّيجات المختلطة، لقد ضغط مؤيدو زواج المثليين لجعل زواجهم متاحًا وقانونيًا، لكن لم يقاتل أحد من أجل الزواج الوحيد المهم حقًا، وهو تعدّد الزوجات"، ثم يكمل مشيرًا إلى أن "تعدّد الزوجات" ليس قاصرًا فقط على الرجال، بل للنساء أيضًا، ويوضح قائلًا: "افعلن ذلك، أيتها السيّدات. هناك سقف زجاجي آخر يمكنكنّ كسره".
ما إن صدر الكتاب الجديد لبوب ديلان، حتى انتبهت منصّة سبوتيفاي الموسيقية للنقص الكبير في الكتاب، وهو أنه يتناول أغنيات قديمة، لا تعرف عنها الأجيال الجديدة شيئًا، فأنشأت قائمة موسيقية بعنوان الكتاب، متضمّنة جميع الأغنيات التي يحلّلها ديلان، ما سهّل على القرّاء الاستماع إلى الأغنيات وهم يقرأون الفصول المكتوبة عنها تباعًا، خاصة وأن الكتاب من نوع الكتب التي تُقرأ أجزاؤها منفصلة.
أصدر ديلان حتى الآن ما يربو على الـ 39 ألبومًا موسيقيًا، والتي باعت مجتمعة أكثر من 125 مليون نسخة حول العالم. وإضافة إلى جائزة نوبل في الآداب عام 2016، حصل أيضًا على وسام جوقة الشرف الفرنسي، وجائزة بوليتزر فئة الاقتباس الخاص، والميدالية الرئاسية للحرّية، وهي أعلى وسام مدني في الولايات المتحدة الأميركية. كما احتلت سيرته الذاتية "سجلّات" قائمة ذا نيويورك تايمز للأكثر مبيعًا على مدى عام كامل.