في الدائرة الثامنة عشرة الباريسية، وفي حي مختلط الأعراق وغني بهويته الثقافية، يقدم معهد الثقافات الإسلامية، بالتعاون مع Afrique in Visu معرضاً تصويرياً تحت عنوان "المعتقدات: فعل وإلغاء اللامرئي" Croyances : faire et défaire l’invisible.
يشتمل المعرض على أعمال ستة عشر فناناً من أصول متنوعة، يقدمون أعمالهم التصويرية، وأعمال تجهيز فني، حول موضوعة المعتقد. بحسب القائمين على المعرض؛ فإن الأعمال المقدمة ليست بانوراما للحياة في أفريقيا، وإنما هي خروج عن التنميط الذي يرسم صوراً ثابتة عنها. فالأعمال عبارة عن مساحة للحوار بين الواقع والخيال، ومحاولة لتحدي تجسيد السلطة للدين لمقاومة الأنماط السائدة. كما أنها تتنوع بين قراءة طقوس السحر والإيمان والصلاة.
تختلف رؤية كل فنان عن الآخر، وتختلف تجاربهم الفنية وتناولهم لسؤال المعتقد. لكن المعرض بمجمله يبعث في نفس الزائر شعوراً يبعده عن ضوضاء المدينة، ويطلق روحه في فضاء الخيال. يبقى أن سؤال المعرض قابل للبحث؛ فهل من الموضوعية ربط أفريقيا بموضوع المعتقد؟ وكأنه يقتصر على الآخر المختلف الغريب الغيبي واللاعقلاني. لطالما تناول الغرب ممثلاً بباحثيه ومؤسساته الفكرية قضية السحر والتدين والمسائل الغيبية باعتبارها جزءاً من هوية الآخر الرجعي والبعيد عن الحداثة. لذا، كيف يمكن قراءة فكرة هذا المعرض بعيداً عن هذه الرؤية؟
يرى الباحث جان بلاتفوت أن أفريقيا انتقلت من موضوع للبحث في مجال الأديان إلى فاعل ضمنه، ذلك عندما بدأ الباحثون الأفارقة يساهمون في نقل رؤيتهم من خلال أبحاثهم حول منطقتهم وهويتهم وأديانهم. بناءً على ذلك، يأتي المعرض كنقل لرؤية المصورين الذين تعود أصول أغلبهم إلى أفريقيا، فصوتهم ينقل رؤية أصيلة عن انتمائهم لهذه القارة الشاسعة والمتنوعة دينياً وعقائدياً.
كما يضيف الباحث في علم الأنثروبولوجيا، تود ساندرز، أن المعتقد في أفريقيا ليس حالة ثابتة كما قد توحي الدراسات التي تعمل على تنميط الآخر برسم صورة ثابتة وغير متغيرة له. يبين ساندرز أنه في فترة ما بعد الاستعمار، أثبت السحر، كمثال، مرونةً تستجيب لتعقيدات الحداثة والعولمة. فهو ليس حول الحداثة، بل هو جزء منها، حيث يعطي النساء والرجال مساحة للتأمل والتفكير والتعافي وتحدي ما تفرضه هذه الأنظمة على الواقع المحلي.
وبحسب ساندرز، فإن التقاليد هي جزء من الحداثة؛ فكل من المفهومين يصبح مجتزأً من دون الآخر. يوضح: "لم يعد بالإمكان أن ننظر إلى حرفة السحر الأفريقية والأيديولوجيات المماثلة على أنها ظاهرة قديمة أو غريبة، معزولة بطريقة ما أو مفككة عن العمليات التاريخية للتحول السياسي والاقتصادي العالمي. بدلاً من ذلك، فإن معتقدات وممارسات السحر الأفريقي ما زالت حية وتدرك الإيقاعات الأساسية لعالمنا، وتنخرط بطرق إبداعية في فعل جديد في ما يدعى فترة ما بعد الاستعمار"..
يعكس الفنانون في معرض المعتقدات استجابات مختلفة لهذا المفهوم الواسع؛ فمنهم من احتفل بالتقليد، ومنهم من تحدى بعض الممارسات المرتبطة بالإيمان التي اعتبروها مغرقة في الغرابة. ومن الأعمال الساحرة الجمال، تأتي لوحة الفنانة الإيطالية ميمونة غريسي Maïmouna Guerresi "منبر خديجة"، وهي جزء من سلسلة أعمالها "عائشة في بلاد العجائب".
يقدم العمل صورة آسرة لفتاة ترتدي الزي الإسلامي الأبيض، الذي يجعلها تبدو كملاك طائر يقف على منبر مرتفع، وهو ما تراه الفنانة كمنبر الصلاة. من هذا المنبر، يطل عادة أئمة المسلمين أو رجال الدين المسيحيون الذين يقودون الصلاة. هنا تقدم الفنانة رؤية حالمة لفتاة تحلق في عالم الإيمان كفاعل مغير ومجدد، وليس كمتلقٍ سلبي.
كما يقدم المعرض لوحة للفنان صموئيل فوسو Samuel Fosso من الكاميرون، والذي يصدف وجود معرضين في باريس يضمان أعماله إضافة لهذا المعرض. يضم متحف لويس فوتون مجموعة من أعماله التي تحاكي الهوية، وتسعى إلى التمكين من خلال تصوير ذاته على شكل شخصيات من أصول أفريقية ناشطة معروفة في مجال الحراك الإنساني ضد العنصرية.
ويقدم معهد ثقافات الإسلام تجهيزاً لفوسو يعود إلى عام 2017، يحمل عنوان "البابا الأسود"، والذي يعتبر من الأعمال المهمة التي تتحدى الرواية التي تطبع لكاثوليكية بيضاء. وطالما تغلغلت الكاثوليكية من خلال الاستعمار وطمس الهوية. نجد الفن يمنح المهمشين فسحة لتغيير الأدوار وتحدي السلطة بجعلهم محركاً للحدث.
إضافة إلى ذلك، تأتي أعمال الفنان نبيل بطرس Nabil Boutros، الفرنسي من أصول مصرية، لتضفي حالة من الخيال في فضاء المعرض، حيث تجسد لوحاته التصويرية الخراف كموضوع. تتحول النعاج من رمز للأضحية في الديانات التوحيدية إلى مجموعة من المشاهير، وإلى كائنات ذات وجود مستقل في فضاء بطرس الذي يهبها قدرة تعبيرية تذهل المتلقي. يأتي تجهيز بطرس بعنوان "مشاهير" (2014) كحالة تثير أسئلة متعددة لدى المتلقي. بأسلوب ساخر وفي محاولة لتحدي رمزية النعاج العاجزة، يعكس بطرس الأدوار، ويجعل النعاج شخوصاً ذوي إرادة وهوية متنوعة. لكل من هذه النعاج وجه، ونظرة تختلف عن الأخرى، وقد تم إنجاز صورها في الاستديو كنجوم حقيقيين يتم الاحتفاء بهم.
يصعب هنا، في حالة هذا المعرض، النظر إلى هذه الأعمال بإطلاق حكم قيمي متسرّع عليها، كالقول إنها استشراقية مثلاً، أو تعمل على تنميط البيئة الأفريقية ونقلها لترضي وجهة نظر "الغرب" عن المنطقة ومعتقداتها. الأعمال تميل إلى إثارة النقاش، وليس إلى التنميط الاستشراقي المباشر.
يساهم تنوع الأعمال وتنوع وجهات النظر في إغناء الزائر وإثراء رؤيته لموضوع المعتقد في القارة الأفريقية. ومن المهم التأكيد على جوهرية معهد الثقافات الإسلامية كمؤسسة تعمل لأنسنة الآخر في فرنسا، التي تقطنها أقلية مسلمة ذات تعداد كبير. هذا المعهد مفتوح للفرنسيين بجميع ثقافاتهم وإثنياتهم، وقد تم تأسيسه في عام 2006. يخلق المعهد حالة من الحوار تسعى إلى تغيير الصور النمطية التي ترتبط بمعاداة الإسلام وتمنحه وجهاً علمانياً عصرياً.