تأكيداً لتوجّهها السينفيلي، تعرض "نتفليكس"، الأميركية المنشأ والعالمية الأفق، أفلاماً للناقد والمخرج الفرنسي فرنسوا تروفو (1932 ـ 1984). أحبّ الأميركيون أفلامه منذ البداية. هذا قوّى شهرته، فمن تحبّه أميركا يحبّه العالم. وجدتُ تفسيراً للهوى الأميركي في قول الكاتب الألماني كارل كراوس: "يحبّ الأميركيون كلّ ما ليس لديهم، خصوصاً الآثار القديمة، ومظاهر الحياة الداخلية".
في هذا السياق، صَوّر تروفو "الجلد الناعم" (1964) و"الليل الأميركي" (1973)، كما صَوّر باريس والحياة الداخلية، وأمْتَع كما فعل في Tirez Sur Le Pianiste عام 1960.
في أفلامه، يفعل رجالٌ أشياء جميلة لنساءٍ جميلات، في علاقة ثلاثية (زوج وزوجة وعشيقة). بفضل معرفة سوسيولوجية ونفسية عميقة بالنساء، كان تروفو ماهراً في صحبة النساء الحداثيات، وفي تصويرهنّ في باريس، المكان الملائم لتصوير الحياة الحميمية لنساء المدن المتحرّرات. هو لا يسرد حكايات باردة، سمعها المتفرّج سابقاً، لأنّه مَلّها، ولن يتفاعل معها.
اهتمّ تروفو بالإخراج، كما عرّفه أندره تاركوفسكي في كتابه "نحت الزمن". الإخراج (Mise en scène) "مُخطّط أو تصميم مؤلّف، من تنظيم الممثلين وتوزيعهم في اتصال بعضهم ببعض، ومع المحيط أو المنظر. يتتبّع الحياة والذاتية المميّزة للشخصيات وحالتها السيكولوجية". هناك حرص كبير على الأسلوب في الموجة الجديدة. لكنْ، رغم ثقافته المفاهيمية، تتميّز أفلام تروفو بسرد منساب، يحترم منطق الأشياء والوقائع التجريبية المُعاشة، ويسترشد بالحدس الفطري الذي يصطاد المتفرّج. سردٌ يلتقط الحياة في طبيعتها، من دون تدخّل، ومن دون قصدية تنظيرية.
صوّر تروفو أفلامه بين عامي 1959 و1983. إنّها فترة سينما المؤلّفين المناضلين، لكنّه لم ينجرف مع تيار النضال، بل حافظ على الحياة الحميمية لشخصياته. في أفلامه، تتوالى أحداثٌ بشكلٍ غير مباشر، وغير قصدي. يسيل في مجرى طبيعي بأقلّ تدخّل ممكن، وبصفر افتعال.
هذا عن معايير النوع الفيلمي، الذي فضّله الأميركيون عند تروفو. أما على صعيد المنجز الفيلمي، فاشتهر بفيلمي "400 ضربة" (1959) و"الطفل المتوحّش" (1970). يحكي الأول قصّة طفل من أسرة باريسية فقيرة، يُعنّفه والده وتُهمله أمه، فتُربّيه جدّته. لذا، لا ينسجم مع والديه. طفلٌ ينام قرب الباب. تزداد هامشيته حين يكتشف أنّ أمه حاولت إجهاضه، فيهجر المدرسة، ويلوذ بالشارع حيث فوجئ بأمّه في وضعٍ أغضبه. لاحقاً، حين سأله المعلم عن سبب تغيّبه، أجاب: "ماتت أمي".
في الفيلم، لمسة من السيرة الذاتية للمخرج، الذي عاشت أسرته في شقّة صغيرة، تبلغ مساحتها 35 متراً مربّعاً. ربّته جدّته. طفلاً، أمضى ليلة في مخفر للشرطة. فيلمٌ مشحون بنظرة اتّهام ضد الكبار، الذين يفتقدون البراءة. ينتهي بـ"ترافلينغ" يمتدّ أكثر من كيلومتر، في رحلة الطفل جرياً نحو البحر، من دون أنْ يرى الأفق.
حظِيَ الفيلم باحتفاء نقدي كبير، خاصّة أنّ تروفو كان مُفضّلاً لدى الأب الروحي أندره بازان. حضر مؤسّس النقد السينمائي الحديث اليوم الأول من تصوير "400 ضربة". بفضل الفيلم، حصل تروفو على جائزة الإخراج في مهرجان "كانّ"، عام 1959، فبدأت شهرته العالمية، وتوالت المقالات. هذه حالة تُظهر فوائد النقد السينمائي على المدى الطويل، بالنسبة إلى أفلامٍ يُرحّب بها النقّاد، ويطرونها. تترسّخ سمعة مخرجيها كمراجع سينمائية عالمية.
الفيلم الثاني يحكي عن طفلٍ تربّى في الغابة مع الحيوانات. يذكّر هذا بقصّة حي بن يقظان للفيلسوف ابن طفيل. يتولّى رجل تربية طفل متوحّش، وتعليمه. متوحّش، أيْ غير ناطق. هذا تأكيدٌ أنّ التربية جهدٌ ومثابرة للاكتساب، وليست معطى جاهزاً. الطفل لا يولد ناضجاً ومؤدّباً، بل يجب الاشتغال عليه لصقله. التربية فنٌّ طبعاً.
تروفو من روّاد "سينما المؤلّف". هذا اتجاه فني يرفض السينما التجارية التي تتملّق الجمهور. يحاول تقديم أفلامٍ تفكّر عميقاً في الوجود البشري، وتختبر مختلف الأشكال الفنية في السرد والإخراج. من هذه الزاوية، المخرج الفرنسي معلّم كبير للسينما. والسينما ديوان العصر.
تعزّز موقع تروفو في المشهد السينمائي العالمي كمُنظّر سينما. أعتقد أنّ المخرجين الذين يملكون ثقافة سينمائية، ومقاربة مفاهيمية للسينما، يحصلون على اعترافٍ كبير. تروفو سينيفيليّ كبير. له شجاعة إجراء حوار طويل مع مخرج أفلامٍ، تُحقّق نجاحاً تجارياً هائلاً. حاور تروفو ألفريد هيتشكوك، الذي كانت النوادي السينمائية تخجل من عرض أفلامه، بناءً على وهم أنّه لا يليق بسينما المؤلّف النخبوية تحقيق أرباحٍ في شباك التذاكر.
على مستوى الكتب، اشتهر تروفو بكتابين، يُعتبران مرجعين أساسيين في النقد السينمائي: "أفلام حياتي" (1973)، يحلّل فيه الأفلام التي شاهدها وأثّرت فيه، ويُعدِّد أحلام الناقد السينمائي بأنْ يعيش مرحلة إبداع الفيلم في أثناء الكتابة عنه، وأنْ يكون وسيطاً بين الفيلم والجمهور، ليُفسّر له ما رأى. يحلم بالتعرّف إلى مُخرج يُبدع، وهو يضع نفسه مكان الشخصية لا مكان المنتج أو الجمهور.
الكتاب الثاني، "متعة العينين" (1975)، يُعرّف عن تروفو، الناقد السينمائي المنتقل إلى الإخراج، وتاركاً النقد. من خلال تعليقاته على الأفلام، تظهر مدى دقّة الملاحظة لديه حين يعلّق على قصصها، وأداء الممثلين، والطريقة التي يحرّك بها المخرجون الكاميرا.
فرنسوا تروفو سينمائي عاشق للأدب. هذا مَكّنه من اقتباس أفلامٍ كثيرة له من قصص وروايات. في النقد السينمائي، أنجز كتابات تنظيرية، تتناول معايير الأفلام وأصنافها، وكتابات تحليلية تتناول فيلماً مُحدّداً. يقول بأنّ المرء يصنع فيلماً عندما يكون لديه شيء ليُريه (ليعرضه للمُشاهدة) لا ليقوله. سار على نهج بازان في تجاوز الحديث عن موضوع الفيلم فقط، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى نسبة الفيلم إلى كاتب السيناريو. بينما الحديث عن الإخراج، وعن إدارة الممثلين والكاميرا والديكور والإضاءة، يؤدّي إلى نسبة الفيلم إبداعياً إلى مخرجه. هكذا، ترسّخت قيمة المخرج المؤلّف.
في عددها (549) الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، خصّصت المجلة الأدبية الفرنسية "ماغازين ليتيرير" ملفّاً عنّه، يتضمّن 3 مقالات تتناول أفلامه وكتبه، بعنوان دالّ: "تروفو كاتب السينما"، إشارةً إلى أنّ المخرجَ مؤلّفٌ أيضاً. أفلامه وكتبه مراجع أساسية لتكوين عشّاق الفنّ السابع. في الملف أيضاً، تعريفٌ بتروفو الذي يُحبّ الأفلام والكتب. في مرحلة تكوينه، شاهد 3 أفلام يومياً، وطالع 3 كتب أسبوعياً. مكّنه هذا من ثقافة سينمائية وأدبية رفيعة، انعكست على جودة إبداعه.
النتيجة: أفلام تروفو لا تشيخ. تُعرض أفلامٌ له على منصّة "نتفليكس"، بعد أفلامٍ لأورسون ويلز، ووثائقيّ عنه. هذا الاختيار تأكيدٌ لموقع تروفو في المشهد السينمائي العالمي.