وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، نهاية مارس/ آذار الماضي، على مشروع قانون استخدام فيديوهات المراقبة الذكية التي تعتمد على الخوارزميات أو تقنيات الذكاء الاصطناعي، على أن تُجرّب في فترة ما قبل وخلال وبعد دورة الألعاب الأولمبية التي ستقام في العاصمة باريس، العام المقبل. تسمح هذه المادة بالمعالجة الخوارزمية للصور التي ستلتقطها كاميرات مراقبة أو طائرات من دون طيار.
هذه الموافقة جددت المخاوف والتحذيرات من التعرّض للحقّ بالخصوصية أو المسّ بالحريات الشخصية والعامة. وعبّر البعض عن قلقهم من الخطوة، رابطين بينها وبين تشريع قوانين أخرى في مرحلة وباء كوفيد-19، ساهمت في تقويض الحريات والحدّ من حركة بعض المواطنين، سواء عبر تطبيقات التتبع أو عبر فرض رمز الاستجابة السريع (QR Code) للتمييز بين متلقّي اللقاح ورافضيه.
خبر التصويت لصالح هذه المادة (59 صوتاً مع، و14 صوتاً ضدّ) فتح الكثير من النقاشات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافة الفرنسية، كما استدعى تفاعلاً من منظمات دولية وفرنسية محلية معنيّة بالحريات وحقوق الإنسان. فمنظمة العفو الدولية (أمنستي) اعتبرت قرار الجمعية الوطنية الفرنسية "تقويضاً لعمل الاتحاد الأوروبي الساعي إلى تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي بهدف حماية حقوق الإنسان الأساسية". كان الاتحاد الأوروبي قد أعلن عن تركيز تعامله مع الذكاء الاصطناعي على تعزيز وتكثيف حضوره في المجالات البحثية والصناعية، مع اشتراط ضمانه التامّ للأمن ولمجموع الحقوق الأساسية للإنسان. وفي بيان صحافي، عبرت المنظمة عن استهجانها هذا التشريع الأول من نوعه، في فرنسا وفي الاتحاد الأوروبي، كونه "يشكّل تهديداً عبر تعزيزه رقابة دائمة لسلطة غير مرغوب فيها (الدولة الديستوبية)، ما سيؤدي إلى انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان". وعبّر نواب من داخل الجمعية الوطنية عن معارضتهم، وعادوا وعبروا عن رأيهم عبر "تويتر". نائبة ائتلاف أوروبا-البيئة-الخضر الفرنسي، ساندرا ريغول، قالت إن الهدف من هذه المادة هو "تحويلنا إلى فئران تجارب لتغذية خوارزميات كاميرات المراقبة". وقارنت بينها وبين موضوع رواية جورج أورويل "1984"، وعلقت: "كابوس (جورج) أورويل في بلاد الأنوار".
حذر حقوقيون من انتهاك حقوق الإنسان عبر هذا القرار
ولكن ما هي هذه المادة تحديداً؟ وكيف من المُمكن للسلامة العامة أن تتعارض مع الحريات؟ تنصّ هذه المادة على أنه، وبشكل تجريبي، من المُمكن تأمين وحماية التجمعات الرياضية والترفيهية والثقافية عبر اللجوء إلى تقنية الخوارزميات. هذه الأخيرة، القائمة على الذكاء الاصطناعي، ستسمح بتحليل صور تلتقطها شبكات كاميرات المراقبة والطائرات من دون طيار، وستقوم بالتبليغ والإشارة إلى مجموعة أحداث قد تكون مهدّدة للسلامة العامة. هذه الأحداث تحدد أو تبرمج بشكل مُسبق، وهنا محطّ المخاوف. لهذا، وخلال النقاشات في الجمعية الوطنية، حاول وزير الداخلية الفرنسي، جيرار دارمانان، طمأنة المخاوف، عبر إعطاء أمثلة عمّا ستبحث عنه هذه الخوارزميات: "نشوب حريق، وحالات اختناق خلال التجمعات الكبيرة، وطرد أو حقيبة متروكة وسط مكان ما". وشدّد على أنّ "الكنزات بقبعات للرأس" لن تكون على لائحة الحوادث المهدّدة للسلامة، معلّلاً ذلك بأن ما ستتمّ برمجة الكشف عنها هي مواقف وأشياء محدّدة، وليس الأشخاص.
وكانت الحكومة الفرنسية قد رفضت العودة إلى مبدأ "التعرّف إلى الوجوه" عبر كاميرات المراقبة الذكية، ولكن هذا لم يُطمئن نواب اليسار الفرنسي ولا الجمعيات العاملة في مجال حقوق الإنسان، في ظلّ التخوف من تعميم هذه التجربة لاحقاً. تعميم تجربة ستُحدّد المواطن الصالح من غير الصالح، وستشرف بطريقة مستمرة على سلوك السكان، وتحلل حركتهم، وتحدد تنقلاتهم. كما يُمكنها أن تكون أكثر إجحافاً في بعض الحالات، فهي لديها القابلية لممارسة العنصرية مثلاً.
لكن تجربة كاميرات المراقبة الذكية لن تكون الأولى من نوعها في فرنسا. مدينة نيس بدأت باستخدام برمجيات خاصة لكاميرات المراقبة، وهي تُعدّ من أكثر المدن استثماراً في مجال الأمن، وتحديداً في كاميرات المراقبة. انغمست المدينة أكثر في هذه التقنيات بعد الاعتداء الإرهابي الذي وقع فيها عام 2016. عام 2022، أعلن رئيس بلدية نيس عن استقدام 32 كاميرا جديدة تعمل على تقنية الذكاء الاصطناعي. ولكن البرمجية المعتمدة في هذه المدينة تقوم على الصور المُرسلة وليس على بيانات محددة، وهذا ما خلق جدلاً مستمرّاً عن قانونية استخدام هذا النوع من البرامج وأخطارها على المجتمع وأفراده.
سوق الأمن والرقابة ينتشر بشكل واسع. معظم البرامج تبيعها شركات خاصة، وهذا ما يعزّز مخاوف المنظمات المعنية بحقوق الإنسان. يلفّ التعتيم هذا السوق، وهناك شائعات بأن بعض المدن الفرنسية تستخدم هذه التقنية من دون الإعلان الصريح عنها. أجرت بعض المنظمات الفرنسية محاولاتها للتحقيق في هذا الشأن، من دون أن تتمكّن من الحصول على دلائل واضحة عن استخدام هذه التقنيات. أما محاولة البحث عن رقم واضح ومحدد لعدد الكاميرات الموجودة في فرنسا على سبيل المثال فلم تكن أمراً سهلاً. تختلف الأرقام من مكان لآخر، ولكن الأكيد أنها تتزايد سنويّاً بشكل كبير، ما بين الكاميرات الفردية أو التي تعتمدها المؤسسات الخاصة والعامة وصولاً إلى الحكومات.