فرقة مقام غزة... لا شيء سوى الحنين

11 سبتمبر 2024
من أحد العروض في مصر (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تأسيس فرقة مقام غزة وتحدياتها:** أنس النجار وأصدقاؤه أسسوا فرقة مقام غزة لمواجهة الصعوبات الموسيقية في القطاع، ونجحوا في تقديم عروض تجمع بين التراث الفلسطيني والأعمال المعاصرة.
- **تأثير الحرب على الفرقة وإعادة التئامها في مصر:** تعرضت الفرقة لتشتت أعضائها وتدمير آلاتهم بسبب العدوان الإسرائيلي، وأعادوا التئامها في مصر بدعم من وزارة الثقافة المصرية والسفارة الفلسطينية، وقدموا عروضاً في دار الأوبرا المصرية.
- **استمرار النشاط الفني والرسالة الثقافية:** تواصل الفرقة تقديم عروضها الموسيقية لتعزيز التراث الفلسطيني، وتأمل في الاستمرار في مصر والمهرجانات الدولية، مع أمنية العودة للعزف في غزة.

لأسباب كثيرة وتعقيدات متراكمة، لم يكن من السهل على أي موسيقي يعيش في قطاع غزة أن يفكر في إنشاء فرقة غنائية، فالتجارب أثبتت أن المهتمين بالموسيقى يكابدون معاناة شديدة في سبيل نيل الحد الأدنى من المستلزمات العملية لممارسة الفن تعليماً أو تدريباً أو عرضاً. مجرد الحصول على آلة موسيقية ليس بالأمر الهين داخل القطاع، وتزداد الصعوبات عند من يريد أن يقدم الموسيقى ضمن فريق، يحتاج إلى التمويل والتدريب والبروفات. برزت هذه العقبات أمام الشاب أنس النجار حين قرر تدشين فرقة مقام غزة مع مجموعة محدودة من أصدقائه المهتمين بالموسيقى.

وبالإرادة والإصرار، ظهرت فرقة مقام غزة إلى النور عام 2020، واستطاعت أن تثبت أقدامها من خلال ما تقدمه من عروض موسيقية وغنائية، تجمع بين التراث الفلسطيني القديم والأعمال المعاصرة، وفق رؤية ترى أن الفن جزء من الواجب النضالي لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني عموماً، وإبقاء جذوة الأمل مشتعلة في نفوس سكان قطاع غزة على وجه الخصوص.

لأكثر من 13 عاماً، عمل أنس النجار في ميدان التعليم الموسيقي، إلى أن تبلورت في ذهنه فكرة تأسيس الفرقة مع أصدقائه الهواة. وخلال فترة قصيرة، استطاعت المجموعة أن تقدم حفلات جماهيرية في أكثر من مناسبة داخل قطاع غزة، ومنها أمسية "يلا نغني" بمركز القطان، ومهرجان أثر الفراشة الذي أقيم في المركز الثقافي الأرثوذكسي بالتعاون مع المعهد الفرنسي ومنظمة يونسكو.

وسَّعت هذه العروض من جماهيرية الفرقة، التي لفتت انتباه محبي الموسيقى الشرقية الكلاسيكية، وهواة الطرب القديم. ثم جاء عدوان الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، فلم يتوقف نشاط فرقة مقام غزة وحسب، بل تشتّت شمل أعضائها، وذهب كل منهم في طريق، منشغلاً بما حوله من دمار وموت وفقدان للأهل. لم يستطع أحد منهم أن يجري مكالمة تلفونية مع زميله، وحالت ظروف الحرب بينهم وبين اللقاء.

خسر معظم أعضاء الفرقة منازلهم، وتحطمت الآلات الموسيقية. ويقول إياد أبو ليلة، أحد مؤسسي الفرقة وعازف الرق فيها: "بعد أيام من الحرب، نزحنا إلى الجنوب بسبب القصف الشديد على كل مناطق الشمال، فأقمنا في مدرسة تابعة لـ"أونروا" في رفح، وكانت الحياة صعبة جداً، بخاصة في وجود أطفال، فلا توجد أي مقومات للحياة، لا أكل ولا شرب ولا كهرباء". بدا أن قصة الفرقة قد انتهت. وبتفكير فردي، سعى كل واحد منهم إلى الخروج من القطاع والوصول إلى مصر، وهو ما كان.

في مصر، اكتشف كل عضو في فرقة مقام غزة أن زملاءه قد وصلوا إلى القاهرة، وبدأت اتصالاتهم لإعادة الالتئام. وجد أعضاء الفريق في مصر جواً مؤاتياً وظروفاً مساعدة. انطلقت ترتيباتهم لتقديم أول عروضهم على مسرح دار الأوبرا، وبرعاية من وزارة الثقافة المصرية والسفارة الفلسطينية في القاهرة.

قدمت فرقة مقام غزة باقة من الأعمال المتنوعة التي تمثل التراث الفلسطيني وتتناسب مع ظروف الحرب في قطاع غزة. ولقي أعضاء الفريق ترحيباً كبيراً وتشجيعاً مؤثراً من الجمهور المصري، ومن وسائل الإعلام المصرية.

يؤكد عازف الإيقاع في الفرقة سامح أبو ليلة أنه لم يخطر في باله أن يلتقي أعضاء الفريق مرة أخرى، بعد أن غيرت الحرب كل شيء في حياته. يقول: "أنا من جباليا، وكنت أعمل مدرّباً للإيقاع في معهد للموسيقى بغزة. وعندما اندلعت الحرب، خرجنا من منازلنا بعد أن ألقت الطائرات الإسرائيلية علينا منشورات تطلب إخلاء المنطقة، فنزحنا مع العائلات إلى الجنوب وتوجهنا إلى رفح وأقمنا فيها 60 يوماً متواصلة في ظروف صعبة، وبعدها جئنا إلى مصر".

يضيف: "لم أكن أتخيل أن أقابل أصدقائي وأعضاء الفرقة مرة أخرى، فقد خرج كل منا بمفرده، لكننا وجدنا دعماً وترحيباً من المصريين. مغنية الفرقة ليندا مهدي تقول إن الحفاوة التي قوبلت بها الفرقة في مصر شجعتنا على مواصلة دورنا في توصيل صوت غزة إلى العالم،  والحفاظ على الهوية الفلسطينية وإحياء التراث الموسيقي الفلسطيني".

فقد كل عازفي الفرقة آلاتهم بسبب الدمار في غزة، باستثناء عازف القانون فراس شرافي الذي استطاع أن ينقذ آلته، وأن يصطحبها إلى مصر لتغرد على مسارح القاهرة. يروي شرافي قصته مع قانونه قائلاً: "عندما اضطررت إلى النزوح من بيتي شمال غزة، لم أحمل معي سوى آلتي الموسيقية التي رافقتني من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى رفح، وأخيراً إلى مصر". يعتبر شرافي آلة القانون وسيلته للمقاومة، وطريقته الوحيدة للحفاظ على التراث والهوية في مواجهة كل محاولات الطمس والمحو. فللمقاومة أشكال متعددة، تختلف باختلاف قدرة كل فلسطيني.

تحرص الفرقة في حفلاتها أو تسجيلاتها المنشورة على قدر معتبر من التنوع: أغنيات تخص القضية الفلسطينية، مقتطفات من التراث الشعبي الفلسطيني، مختارات من أغاني أم كلثوم. كما تقدم باقة من المؤلفات الموسيقية الشهيرة، مثل مقطوعة ذكرياتي لمحمد القصبجي، أو لونغا فرح فزا لرياض السنباطي، مع رؤية توزيعية تمزج بين الآلات الشرقية والغربية.

سيجد المستمع الذي يتتبع إنتاج الفرقة أداء مختلفاً لأغنية "افرح يا قلبي"، أو "ألف ليلة وليلة" لكوكب الشرق، أو "التوبة" لعبد الحليم حافظ، أو "زهرة المدائن" لفيروز، أو "أهو ده اللي صار" لسيد درويش"، أو موسيقى "خطوة حبيبي" لمحمد عبد الوهاب، أو "بتونس بيك" لوردة، أو "بلا ولا شي" لزياد الرحباني.

لكن الفرقة تقدم أيضا أغنيات جديدة كُتبت خصيصا لـ فرقة مقام غزة مثل: "إنت وين" التي كتبها محمد الشافعي، ولحنها إسلام رفعت، وغنتها ليندا مهدي، وتقول كلماتها: "إنت وين وأنا وين.. ما فيه غير الحنين.. صرنا وسط الدنيا.. أنا وإنت ضايعين.. ما بعرف عنك إشي.. بلقبي نار ما بتنطفي.. وجرحي ما بينشفي.. مهما عدوا السنين". وتصف كلمات الأغنية طرفاً من مأساة المشاعر الإنسانية لسكان قطاع غزة فتقول: "وين الحلم اللي كان.. كل طموحنا زمان.. بيت صغير وأمان.. ليش كل شيء بلحظة انهدم".

يأمل أعضاء الفرقة استمرار نشاطهم الفني، سواء في مصر أو عبر مشاركتهم في المهرجانات الفنية التي يدعون إليها.. يرون أنفسهم ممثلين موسيقيين لغزة التي تواجه عدواناً وحشياً اقترب من إتمام العام. يرى أعضاء الفرقة أنهم مقاتلون على جبهة مهمة، تتمثل في الهوية والتراث وإيصال صوت القطاع إلى العالم، من خلال أسلحتهم الفريدة: بيانو أنس النجار، وقانون فراس شرافي، ورق إياد أبو ليلة، وصوت ليندا مهدي. لكن أمنية غالية تبقى في الانتظار، وهي أن يغني الفريق ويعزف بين جماهير غزة وجباليا وخانيونس ورفح مرة أخرى.

المساهمون