هل يمكننا الرقص من دون موسيقى؟ الأمر ليس مستحيلاً، لكنه صعب بلا شك، فالموسيقى دليل الراقص والإيقاع ملهم الحركة. لكن، ماذا لو كنتم غير قادرين على سماع الموسيقى أو الشعور بالإيقاع؟ لا عليكم، فلترقصوا أيضاً. ارقصوا في كل الأحوال، فحتى من دون موسيقى "كل جسد يمكنه الرقص". العبارة الأخيرة منسوبة إلى مصممة الرقص الألمانية الراحلة بينا باوش (1940 - 2009)، وهي العبارة نفسها التي ألهمت المخرج المصري رضا عبد العزيز فكرة تأسيس "الصامتون"، وهي فرقة استعراضية مصرية، جميع أفرادها من الصم والبكم.
أسس عبد العزيز هذه الفرقة في عام 2005، اعتماداً على جهده الشخصي. لفتت الفرقة إليها أنظار الجمهور، حين قدمت عروضها على مسارح الدولة، فذاع صيتها وامتد إلى خارج الحدود. قدمت عروضها في كثير من المحافل والمهرجانات الدولية المتخصصة في الرقص، ونالت استحسان النقاد والمتابعين، حتى أن بينا باوش نفسها تواصلت قبل رحيلها مع مؤسسها وأثنت على جهوده.
لا يخفي رضا عبد العزيز فخره بذلك، مبدياً تأثره بتجربة هذه السيدة الرائدة في مجالها التي كان يأمل لقاءها قبل رحيلها. لعل مشاهدة فرقة راقصة من الصم والبكم أمر يستحق الاهتمام، غير أن نجاح هذه الفرقة لا يقتصر على طبيعتها فقط، رغم كونه عاملاً مؤثراً بالطبع، فالأمر له علاقة أيضاً بالإتقان والحضور اللافت على خشبة المسرح.
في هذا السياق، نتساءل: كيف أمكن لهؤلاء الراقصين الالتزام بالإيقاع من دون سماعه، والتجاوب مع ترددات الموسيقى من دون الشعور بها؟ السر هنا، كما يقول رضا عبد العزيز، يكمن في طريقة التواصل مع أفراد الفرقة، اعتماداً على أسلوب الاتصال العظمي. يقول عبد العزيز: "هي طريقة معروفة لجأ إليها الموسيقي البارز بيتهوفن بعد فقدانه لحاسة السمع، إذ كان يضع رأسه على البيانو كي يستطيع الإحساس بذبذبات النغمات وإيقاعها". هكذا، ابتكر مؤسس الفرقة أسلوبه الخاص في تطبيق هذه الوسيلة، إذ استبدل الإيقاع بضربات خفيفة على أكتاف وأكف الراقصين. وبكثير من التدريب والجهد، استطاع أعضاء الفرقة التجاوب مع النغمات، واكتسبوا القدرة على التوافق الحركي المتقن والإحساس المرهف بالإيقاع الجماعي.
مؤسس الفرقة ليس دارساً لفن الرقص، إلا أنّه اعتمد على موهبته وخبرته لكونه موسيقياً واستعراضياً سابقاً، وساقه طموحه أيضاً إلى خوض التجربة بهدف دمج الصم والبكم في عالم الفن، متخذاً من فن الأداء الحركي مدخلاً لتحقيق ذلك، فبعد أن تعايش مع الأطفال الصم والبكم وتعرف إلى عالمهم الصامت، ورأى بعينيه معاناتهم حين تتعثر بهم السبل للتواصل مع أقرانهم العاديين، أراد أن يبتكر اتجاهاً فنياً جديداً، يساهم بشكل كبير في دمج الصم والبكم في المجتمعات العربية، ويفتح به للصم آفاقاً جديدة للتواصل تحقق تفعيل مشاركتهم في العالم العربي.
حققت فرقة "الصامتون" نجاحاً جماهيريا كبيراً قلما حققته فرق أخرى من أولئك الذين يسمعون ويتحدثون. غير أن هذه التجربة الفنية المتميزة لهذا الفريق، لم تستطع الصمود طويلاً، نظراً إلى شُح التمويل، وتغافل المؤسسة الثقافية الرسمية عن جهودها. تفرق أفراد الفرقة وتوقف نشاطها لعدة سنوات، قبل أن يُعاد تأسيسها من جديد في منتصف العام الماضي، بعد جهد ومثابرة. جدد المخرج رضا عبد العزيز نشاط فرقته، بأن ضم إليها أفراداً آخرين، مستعيناً في الوقت نفسه بخبرة سابقيهم. ووفق برنامج تدريب مكثف، استعادت الفرقة ألقها من جديد، كإحدى الفرق الناجحة في مجال الرقص المعاصر في مصر.
قدمت الفرقة، أخيراً، عروضها في عدد من المسارح في القاهرة والمحافظات المصرية. شملت هذه العروض مجموعة من الفقرات المتعددة، بينها عرض عنوانه "سحر الشرق" الذي اعتمد على أنغام الموسيقي اليوناني الشهير ياني، وهو عرض يمزج بين المحتوى المصري القديم والثقافة الصينية.
تجاهد فرقة "الصامتون" حالياً من أجل الاستمرار رغم شُح التمويل، غير أن مؤسسها لا يخفي تفاؤله، مشيراً إلى إصرار أعضاء الفرقة ورغبتهم الأكيدة في مواصلة النجاح والتحدي. يُذكر أن المخرج رضا عبد العزيز قد أسس قبل سنوات قليلة فرقتين منفصلتين إلى جانب فرقة "الصامتون"، الأولى "إنسان" وهي فرقة غنائية للمكفوفين، والأخرى "حركة" تضم أعضاءً من ذوي الإعاقات الحركية.