فبراير روسيا... جنود عائدون في إجازة تخريبية

12 مارس 2024
اعتُقل الآلاف بزعم تشويه سمعة القوات المسلحة (أولغا مالتسيفا/ فرانس برس)
+ الخط -

يتزايد الجدل في روسيا حول سلوك المشاركين في الحرب على أوكرانيا في الأماكن العامة، بعد عودتهم إلى الحياة المدنية أو أثناء إجازاتهم. وفي حين يعتبر جزءٌ من المجتمع هؤلاء العسكريين أبطالاً يحق لهم أن يفعلوا ما يحلو لهم في أي مكان، يتذمر كثيرون من أصحاب المؤسسات التجارية والمطاعم والفنادق من سوء سلوك وتعجرف هؤلاء "الأبطال"، وتعديهم ومضايقتهم للزبائن الآخرين.

تكمن المشكلة في أنه في حال طرد هؤلاء المشاغبين الذين يرتدون الزي العسكري، أو رفض تقديم الخدمات لهم، تنهال الانتقادات على إدارة المكان والتهم بانعدام الوطنية، التي عادة ما تتبعها اتهامات بالخيانة ومطالب للجهات الأمنية بالتأكد من احتمالات تعامل أصحاب هذه الفنادق والمطاعم مع القوات المسلحة الأوكرانية، وتقديم الدعم لها وتمويلها.

وأحدث هذه الحالات وقعت في مدينة ليوبرتسي في مقاطعة موسكو، حين طردت صاحبة مقهى تدعى ألينا بويكو بولياكيفيتش أحد المجندين بسبب ما وصفته بتصرفاته "غير اللائقة على أقل تقدير". إلا أن الأمر تحول من حادثة صغيرة إلى قضية رأي عام، حين كتبت صاحبة المقهى على حسابها في أحد وسائل التواصل الاجتماعي عن الأمر، وقالت إنها "خلال دقيقتين، ومن دون صراخ أو شتائم أو ما شابه، حلت المشكلة".

وذكر تقرير موقع ريغنوم، يوم 27 فبراير/ شباط الماضي، أنه بعد نشر صاحبة المقهى هذه الجملة، انهالت الانتقادات على مالكة المقهى من "ناشطي Z" (وهو تعبير يطلق على جيش الداعمين للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي)، الذين اتهموها بـ"التفاخر بطرد جندي خاطر بحياته وكاد أن يلقى حتفه من أجل الوطن، ومن أجل أن تتمكن هي وأمثالها من العيش بأمان وامتلاك مقاهٍ".

وعلى خلفية تصاعد موجة الانتقاد والمهاجمات، سارعت صاحبة المقهى إلى حذف منشوراتها وإغلاق صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي. كما انهار تصنيف المقهى على الإنترنت بين عشية وضحاها، وظهرت في التعليقات حول أداء المقهى، الذي كان بالأمس ناجحاً، أن "معاملة الضيوف في المقهى وقحة تماماً". كما ذكر آخرون أن "الجنود مثل أي شخص آخر، ليسوا منزهين عن الخطأ، ويمكن لأي مواطن أن يتصرف بطريقة غير مهذبة. ولكن هل هذا سبب للفخر بنفسك كطاردة لجنود العملية العسكرية الخاصة ومعاملتهم كالمشردين؟".

وبعد أيام قليلة، حضر جمع من جنود العملية العسكرية إلى جانب ناشطين من منظمة "الجالية الروسية" من موسكو وليوبرتسي، بحجة رغبتهم بمعرفة حيثيات القصة بأنفسهم. إلا أن صاحبة المكان، وبعد موجة الانتقادات والهجمات، قررت عدم الحضور إلى مكان عملها، كما توقفت أيضاً عن فتح مقهاها. وفي مقهى ثان تملكه، لم يرغب الموظفون في الخروج والحديث مع جمع "الناشطين".

ولذلك، كتب الناشطون بلاغاً جماعياً للشرطة ضد المالكة، وطالبوا بفتح تحقيق للتأكد من عدم تورطها في تمويل القوات المسلحة الأوكرانية. وفي اليوم نفسه، داهم ضباط إنفاذ القانون المقهى، واعتقلوا صاحبته. وفي نهاية المطاف، أُدينت صاحبة المقهى بموجب المادة المتعلقة بتشويه سمعة الجيش الروسي، وغُرمت بمبلغ 45 ألف روبل (نحو 500 دولار أميركي) بحكم قضائي من محكمة ليوبرتسي.

لم تتوقف القضية عند هذا الحد، إذ أعلنت لجنة التحقيق الروسية، يوم 27 فبراير، عن فتح قضية جنائية ضد صاحبة المقهى على أساس جريمة "التحريض على الكراهية أو العداوة، وكذلك إذلال الكرامة الإنسانية"، كما بدأت تحرياتها بشأن احتمال تورط صاحبة المقهى بتمويل القوات المسلحة الأوكرانية.

قانون "تجريم انتقاد الجيش الروسي" الفضفاض

هذه الحادثة واحدة من عشرات الحالات المشابهة، التي باتت اعتيادية وطبيعية في المجتمع الروسي في الآونة الأخيرة.

فعلى سبيل المثال، تسبب أحد الجنود المخمورين يوم 24 فبراير بفوضى وأعمال شغب فور صعوده إلى الطائرة المتوجهة من موسكو إلى ياكوتسك، معتدياً على ركاب الطائرة. وبعد استدعاء الشرطة وأمن المطار، تقرر أن يواصل الراكب رحلته بسبب ما وصفته وسائل الإعلام بـ"إصرار ركاب الطائرة على عدم اعتقال الراكب المشاغب".

اللافت أن هذه المعاملة المتسامحة جرت في روسيا التي شددت في عام 2022 عقوبة المشاغبة في الطائرات، وجعلتها جريمة جنائية عقوبتها السجن ثماني سنوات.

ورغم أن قانون تجريم انتقاد الجيش الروسي اعتُمد بعد وقت قصير من انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، فقد اعتقلت أجهزة الأمن الروسية، حتى أغسطس 2023، سبعة آلاف شخص بسبب أعمال يُزعم أنها تشوه سمعة القوات المسلحة.

يعتبر الخبراء أن هذا القانون غرضه حظر أي تصريحات تنتقد الحرب في أوكرانيا، وأن هذه خطوة أخرى نحو الحد من حرية التعبير وحرية وسائل الإعلام، فضلاً عن زيادة تضييق المجال المدني في روسيا.

لم تكتف السلطات بفرض عقوبات جنائية على أي انتقاد لتصرفات السلطات في أوكرانيا، أو توجيه أي انتقاد للجيش الروسي، بل شددت، في منتصف فبراير، العقوبة، وجعلتها تشمل، بالإضافة إلى السجن أو التغريم، عقوبة مصادرة الأموال أو الممتلكات الثمينة، وكذلك الحرمان من الألقاب الفخرية، وفق مرسوم وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وواضح أن نص هذا القانون وتعديلاته فضفاضة للغاية، ولا تحدد ما الذي يمكن اعتباره تشويها لسمعة الجيش، ولا تفصل بين النقد البناء والانتقاد العدواني.

ففي الشتاء الماضي، كتبت طالبة جامعية تبلغ من العمر 18 عاماً، من سانت بطرسبورغ، بعض الكلمات على نصب تذكاري حجري على شكل قلبين، يرمز للتوأمة بين سانت بطرسبورغ ومدينة ماريوبول في دونباس. ووفقاً لما ذكره موقع فونتانكا، قررت المحكمة تغريم الفتاة بتهمة تشويه سمعة القوات المسلحة، وطُردت لاحقاً من الجامعة التي تدرس فيها.

وقبل أيام، اعتُقلت الفتاة مجدداً بسبب نشرها جملة من قصيدة شعرية باللغة الأوكرانية. وهي مهددة الآن بالسجن بسبب "تكرار جريمة تشويه سمعة الجيش الروسي".

وفي حادثة أخرى، صادرت أجهزة الأمن الروسية يوم 21 فبراير، من شبكة حانات "سيور" الشهيرة في موسكو، بطاقات معايدة عليها صور للمدن الأوكرانية. وفتحت أجهزة الأمن قضية جنائية بشبهة تمويل الجيش الأوكراني من عائدات بيع بطاقات المعايدة هذه.

روسيا... عودة الوشاية السوفييتية

وفي عودة للتقاليد السوفييتية، ارتفعت معدلات الوشاية وتبادل تهم الخيانة في المجتمع واستغلال كثير من المواطنين قانون تشويه سمعة الجيش لتصفية حسابات شخصية مع أشخاص آخرين.

ففي يناير/كانون الثاني الماضي، كشف موقع فونتانكا المعارض عن نشر شخص رسالة صوتية أرسلتها له إحدى معارفه، أبدت فيها رأيها المعارض لاستمرار الحرب في محادثة خاصة.

واعتقلت السلطات المرأة وحاكمتها وغريمها مبلغ 120 ألف روبل (أكثر من 1300 دولار أميركي). وفي موقف آخر، اتهمت مواطنية طبيب أطفال بإهانة زوجها المجند في صفوف القوات المسلحة الروسية في أوكرانيا، بسبب انتقاده تأخر والدي الطفل في عرضه على الطبيب وتجاهل مرضه.

جرائم المجندين مسكوت عنها

في حين تشدد السلطات الرقابة وتحاكم كل من ينطق بما لا يعتبر دعما مطلقا للجيش الروسي، فإنها تتساهل مع مرتكبي المخالفات والجرائم من المجندين والمتطوعين، وحتى مع المجرمين الذين صدر عنهم عفو، بعد قضائهم فترة الخدمة في صفوف القوات الروسية المحاربة في أوكرانيا، ومن ضمنهم من وجدوا في التطوع في صفوف المرتزقة، مثل "فاغنر"، سبيلاً لمسح جرائمهم.

حدث أن هاجم أحد المجندين شرطياً وأوسعه ضرباً، واكتفت السلطات في روسيا بمعاقبته بغرامة مالية. وفي حالة أخرى، لم تفتح الشرطة قضية في حادثة وجود رجل في مركز تسوق مع كيس مليء بالقنابل اليدوية. وآخر، بعد عودته من منطقة الحرب، اغتصب طفلة.

تمثّل القضايا السابقة غيضاً من فيض قضايا كثيرة وثقت في سجلات الجريمة من مناطق مختلفة من روسيا الجامع بينها أن المنفذين والمشتبه بهم أشخاص عادوا من منطقة القتال.

وفي تقرير كتب بناء على رصد الأخبار والبيانات الصحافية الصادرة عن وكالات إنفاذ القانون وقواعد بيانات المحاكم (أي في المصادر المفتوحة)، تمكن صحافيو "نوفايا غازيتا"، حتى سبتمبر/أيلول 2023، من الكشف عن 55 عملاً إجرامياً ارتكبها المشاركون السابقون والحاليون في منطقة العملية العسكرية الخاصة.

ومن بين فئات الجرائم المرتكبة على أراضي روسيا يتصدر استخدام العنف ضد المسؤولين الحكوميين، ثم بعدها حلت السرقات والسطو، تليها الجرائم المتعلقة بحمل الأسلحة والعبوات الناسفة غير القانونية، وجرائم القتل، والجرائم ضد القاصرين، والمخدرات، والاغتصاب.

المساهمون