فال كيلمر... سيرة ممثّل صعب المراس

فال كيلمر... سيرة ممثّل صعب المراس

26 أكتوبر 2021
عانى من سرطان الحنجرة (تيم موسنفلدر/Getty)
+ الخط -

صوّر فال كيلمر (1959)، في نحو 40 عاماً، مئات الساعات من الفيديو، وثّق فيها لحظاتٍ مهمّة في مساره، وأخرى عادية من حياته اليومية. نبدأ في الوثائقي منذ طفولة كيلمر، مروراً بعشقه لخشبة المسرح، ثم الشباب، حين بدأ يشقّ طريقه لاحتراف التمثيل، إلى مرحلة تكريسه نجماً صفّ أول في هوليوود. إصابته بسرطان الحنجرة، حفّزت رغبته في رواية قصّة حياته، بتعليق من كتابته قرأه ابنه، في الوثائقي "فال" (2021) للثنائي ليو سكوت وتينغ بو.
ركّزت مقدّمة الفيلم على العلاقة الخاصة لفال بأخيه الأكبر، ويسلي، في طفولتهما، وتواطؤهما في إبداع فنٍّ هاوٍ بإمكانات بسيطة، لكنْ بشغف عارم وتمتّعٍ. تلتقط كاميرا الفيديو المنزلية تفاصيله في لقطات مؤثّرة، تعود في مناطق عدّة من "فال"، نظراً إلى أهميتها في فهم علاقة آل كيلمر الوثيقة بالإبداع، الذي يمثّل بالنسبة إليهم الوسيلة الوحيدة لإعطاء معنى للحياة.

وفاة شقيقه غرقاً شكّلت نقطة فارقة في حياته

وفاة ويسلي غرقاً في المسبح، عن 15 عاماً، ولوم كيلمر الأب نفسه على تقصيره في رعاية ابنه المصاب بداء الصرع، شكّلا نقطة فارقة في حياة فال، غذّت الجانب المظلم من روحه، ونَحَتْ بحياته، بشكل حاسم، إلى مسارها التراجيدي.
عاملان عزّزا قوة تأثير الفيلم وتفرّده كوثيقة غالية عن الحياة والسينما:
أولاً، غنى المادة الفيلمية الملتقطة من فال كيلمر، التي حبكت السرد بكثافةٍ، وبتنوّع مناخات، حضرت بموجبها اللحظات الطريفة، كلقطة التهكّم على نجومية توم كروز، الطاغية في تصوير "توب غان" (1986) لتوني سكوت، الذي له فضل إطلاق نجومية كيلمر، وارتباطه الوثيق بشخصية "آيسمان" في مخيال الجمهور العريض؛ ولحظات الحزن على رحيل الشقيق الأكبر، ومَشاهد مثيرة كـ"التزامنية السانكرونية" المُذهلة، حين تلقّى كيلمر اتصالاً من وكيل أعماله، لإخباره بحصوله على عرض تأدية دور بروس واين في "باتمان إلى الأبد" (1995) لجويل شوماخر، مباشرة بعد انتهائه من سبر كهف وطاويط، في رحلة استكشافية في أدغال أفريقيا.
ثانياً، الاختيارات الموفّقة للمخرِجَين، سكوت وبو، في ترتيب الحبكة، إذْ انطلق الفيلم من حاضر فال كيلمر، وطريقته المؤلمة ـ وغير المريحة في البداية ـ في الكلام، بعد تعقيدات السرطان التي اضطرّت الأطباء إلى وضع ثقب تنفّسٍ في عنقه. ثم المزاوجة، تدريجياً، بين الحاضر والماضي البعيد، من طفولة فال إلى بروز نجمه، وصولاً إلى المرحلة السابقة على المرض بقليل، التي تركّز بمنتهى الحساسية على انغماس الممثل في أداء شخصية مارك توين على المسرح، في عروض "وان مان شو" لاقت إقبالاً واستحساناً، سببهما ربما التقاطعات الجوهرية بين كيلمر وشخصية الكاتب الأميركي، التي تمزج السخرية بنظرة نافذة لتراجيديا الحياة ومعاني التمثّل الإبداعي، خصوصاً أنّ نبرة الحكمة الساخرة، التي تحملها المقتطفات المختارة من أدب توين، تتضمّن إحالة رائعة على خريف عمر كيلمر نفسه، ونظرته الشفقية على ما مضى من حياته، جاعلةً من هذا العمل نوعاً من الوصية الخاتمة لحياةٍ حافلة.


حقّق "فال" تمازجاً رائعاً بين نطاق الحميمي/ العائلي والعملي/ الإعلامي، والتداخلات المعقّدة بينها في حياة نجوم التمثيل، كالمشاهد الشجية التي توضح كيف أدّى الاندماج الفائق لكيلمر في دور جيم موريسون، في "ذا دورز" (1991) لأوليفر ستون، إلى تأجيج التباعد مع زوجته، ما أفضى إلى انفصالهما. انفصال برع المخرجان في إقامة جسور بينه وبين طلاق والدي كيلمر، الذي ساهم بقسط كبير في تشكيل شخصيته الهشّة وقتامة اختياراته. رغم ذلك، حمل الفيلم لمسة تفاؤل، بإبرازه علاقة الحب بين كيلمر وولديه، مرسيدس وجاك، الذي اختار التمثيل بدوره.

قرأ جاك، بصوته النديّ، تعليق الفيلم، في تباين لافت مع صوت الأب، الغليظ والمحشرج بتأثير المرض الخبيث، ما أضفى نسقاً حلقياً فاضلاً، فحواه تمرير شاهد الإبداع، والابن الذي يُكمل صنيع الأب.
يشكّل "فال" شهادةً ثمينة عن عالم السينما، من منظور ممثل صفّ أول، حصره التناول الإعلامي السطحي في خانة الشاب الوسيم، مفتول العضلات، بينما تنطوي حياته على جانب مأساوي، قوامه تضحيات وتفانٍ، يبرز (التفاني) مثلاً في مشاهد التمرين المهووس على دور هاملت إلى حدّ الغثيان، ونجاحات تحجب خيبات أمل، لعلّ أكبرها تجربة تأدية دور "باتمان" التي لم تحمل أيّ تحدٍّ فني بسبب نمطية الدور، وتعقيد الحركة، والتعبير من داخل الزي الجلدي الأسود الثقيل، لبطلٍ ميزته أنّه يؤدّي أعمالاً خارقةً، من دون توفّره على قدراتٍ خارقة. رفض كيلمر تجديد العقد لتأدية بروس واين مجدّداً، وهذا لم تغفره هوليوود أبداً له. لكنّ تجربة فيلمه الموالي موفقةٌ للغاية، إذْ برع في أداء دور كريس شَهْرليس، ذي الشخصية غير المتوقّعة والمهزوزة، وعلاقته الالتحامية مع رفيقته، في "حرارة" (1995) لمايكل مانّ. التراجيديا ليست بعيدةً، مرة أخرى.
من أكثر مقاطع الفيلم إثارة للاهتمام، رواية كيلمر، بالصوت وصور الفيديو، لتجربة تصوير "جزيرة الدكتور مورو" (1996) لجون فرانكنهايمر، التي عَقَد عليها آمالاً كبيرة، لأنّها ستجمعه بمارلون براندو، مثله الأعلى، وأحد الذين زرعوا فيه حبّ التشخيص. لكنّ مشاكل الإنتاج، وخلافات كيلمر مع فرانكنهايمر (هناك لقطة صوتية لافتة لحوارٍ مُتشنّج بينهما)، عصفت بكل آماله. هذا ساهم في تكوين الصورة التي أضحت سائدة حوله في هوليوود، بأنّه ممثل صعب، يهوى خلق المشاكل في التصوير. سوء فهم وأحكام مسبقة وصُور سطحية، بدّدها "فال" تباعاً، في تجلٍّ رائع للمهمة الأسمى للسينما، المتمثلة في النفاذ إلى عمق الأشياء، لاستخراج جوهرها، والتسامي بحقيقتها.

المساهمون