فؤاد المهندس قيمةٌ وقامة فنية لا تخطئها العين. إنه من أكثر المضحكين تأثيراً؛ بعد العظيم نجيب الريحاني. إلا أنّ هذا الفنان، المهم في تاريخ الكوميديا والإضحاك في مصر، قد خاض معارك شرسة في مرحلة الستينيات؛ تلك المرحلة تعودُ لموضةٍ نقدية في العالم ترتكز على البحث عن أجوبة للسؤال الذي أثار زوبعة عالمية وهو: هل الفن للفن أم أن الفن للمجتمع؟ بمعنى آخر: أيهما أجدى للإنسان، الفن لمجرد الفن، أم الفن هو الذي يهدف إلى تصور أخلاقي اجتماعي، يخدم الناس ويحس بهم ويستشعر آلامهم.
وبالطبع تكَوّن جيش من نقاد ومثقفين وفناني مصر ليجمعوا على أن: الفن للمجتمع؛ وأن الفن للفن، ما هو إلا لغو، يناسب المجتمع الأرستقراطي والبورجوازي. كان هذا وقت الستينيات، وقت المد الاشتراكي، وحركات التحرر الوطنية. وقتها كان يُتهم الذي يُقّدم الفن للفن بأنه قد يصل إلى تخريب قيم المجتمع الاشتراكي الجديد، وأنه يتواطأ مع الإمبريالية والرجعية، وأنه لا بد من اجتثاث هذا النبات الشيطاني من جذوره المسمى الفن للفن. ولا بد من تقديم مسرح الالتزام بمعناة الحرفي والفلسفي والاجتماعي، وذلك ليكون داعماً لاتجاه الواقعية الاشتراكية. الواقعية الاشتراكيّة التي يجب أن تكون على غرار تعاليم التوجه السوفييتي؛ سواء أكان ذلك في المسرح أو السينما أم في مجالات الفنون الأخرى.
وكمثال على ذلك: انبرى ناقدنا الكبير علي الراعي؛ الذي كان يمثل رأس حربة اتجاه الفن للمجتمع ضد فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي والذين هم أقرب لحرية الفن، والذين يمثلون أيضًا الاتجاه الآخر والأقرب لتيار الفن للفن.
كانت جبهة علي الراعي، تضم الكثير من مثقفي وفناني مصر، مثل كرم مطاوع، سعد أردش، رجاء للنقاش، لطفي الخولي، نبيل الألفي، حمدي غيث، ألفريد فرج، نعمان عاشور وسعد الدين وهبة. أمّا الجبهة الثانية، فكانت تضمُّ، إلى جانب فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي: سمير خفاجي وبهجت قمر، وبالطبع شويكار وثلاثي أضواء المسرح. ذاك التيار هو ما كان يُطلق عليه آنذاك اسم مسرح القطاع الخاص، أما الجبهة الأولى فكانت مسرح القطاع العام، أي مسرح الدولة والذي كان تحت إدارة وزارة الثقافة. وكان يرأسها وقتها وزير الثقافة المرموق ثروت عكاشة.
لفن، لا يمكن أن يُقدَّم دون هدف. وأن الفن والكوميديا، تُعنيان بالدرجة الأولى بالإنسان؛ بعيداً عن انتماءاته ومعتقداته وأيدولوجيته الضيقة
يجب أن نشير أيضاً إلى أن مسرح القطاع الخاص تكوَّن من فرق مسرح التلفزيون، وكان ذلك المشروع الطموح تابعاً لوزارة الإعلام المصرية، ووزير إعلامها المخضرم عبد القادر حاتم. تصاعدت الحملات والمعارك الكلامية والنقدية على صفحات الجرائد والمجلات وحتى في البرامج الإعلامية المسموعة والمرئية. إلى أن جاء اليوم الموعود وهو: مواجهة بين قطبي الاتجاهين، فؤاد المهندس وعلي الراعي. اجتمع فؤاد مع علي؛ ليشرح فؤاد وجهة نظره للناقد الكبير على الراعي التي تلخصت بأن الفن، لا يمكن أن يُقدَّم دون هدف. وأن الفن والكوميديا، تُعنيان بالدرجة الأولى بالإنسان؛ بعيداً عن انتماءاته ومعتقداته وأيديولوجيته الضيقة. وقد لاقى مفهوم فؤاد المهندس كل الترحيب والارتياح، من زعيم النقاد وإمامهم وقتذاك علي الراعي الذي اتفق تماماً مع وجهة نظر فؤاد. بعدها أُوقِفت المعارك التي كادت أن تعصف بالحياة الفنية في مصر، وكادت تحرم الجماهير المصرية من التنوع والتباين والاختلاف في الأعمال الفنية.
أحب أن أؤكد أن التنوع والاختلاف هما السمتان اللتان تعطيان للفن الجيد قيمته. على الصعيد الآخر؛ أوقف من كانوا يريدون أن يصطادوا في الماء العكر، ويشعلون الحرائق بين وزارتين كانتا من أهم الوزارات وأخطرها. كان أولئك الذين يثيرون المعركة يقدمون التبرير بأنَّهم يدافعون عن قيمة أن الفن بجب أن يدعم الاتجاه الاشتراكي. وعندما أوقفت المعركة بقرار؛ أوقفت بحجة أنه من المضر لبنية المجتمع أن يتصارع الطرفان؛ لأن التضاد يُهدد وحدة المجتمع الجديد.
هكذا قيل أو هكذا كانوا يفكرون، بفضل حكمة فؤاد المهندس وحضارته وإيمانه العميق بقيمة ما يقدمونه، استطاع أن ينتصر في هذه الحرب الضروس، وينقذ مسرحه والمسرح المصري بل والفن المصري كله. أنقذه من معركة من أخطر المعارك الثقافية التي مرت عليها البلاد. ولذلك لا بد أن من أن نُقّدم الامتنان والتقدير لهذا الفنان الكبير، والقلب الكبير. فؤاد المسرح المصري.