عن صورة تلك الحرب... هناك

10 أكتوبر 2023
صدم العدو بمعركة طوفان الأقصى (العربي الجديد)
+ الخط -

كما لو أنها حرب صور أيضاً. طوفانٌ من الصور تجتاحك بينما أنت مسمّر أمام شاشة التلفاز. تتنقل من قناة إلى أخرى بحثاً عما هو مختلف. لا يعنيك الخبر فنشره يتم بالتزامن تقريباً في القنوات كلها، أما الصور فوضعها مختلف. قد تكون نفسها لكن التقديم والتأخير والمونتاج تجعلك تفاجأ بها كل مرة. متى حدث ذلك؟ ثم هل حدث حقاً وفعلاً؟ أنت لا تحلم.

من هناك تأتي الصور. من قطاع غزة، حيث ولدت وأقام أهلك بعد فرارهم من قريتهم حمامة، القريبة من عسقلان. القرية الصغيرة، الوادعة، التي فرّ فلاحوها إلى غزة بعد حرب 48، ثم فر بعضهم لاحقاً، ومنهم أهلي، إلى الأردن في أعقاب حرب 67، في سلسلة من عمليات الفرار التي خيّل لي أنها لا تنتهي.

من هناك تأتي صور الحرب الأخيرة. من مناطق لا أعرفها، أنا الذي نشأت وكبرت في بلاد الآخرين، وشكلت غزة في حياتي نوعاً من اللعنة التي لا تنفك تلاحقني عندما كنت أبرز وثيقة السفر المصرية في الدوائر الرسمية، أو جواز السفر الأردني المؤقت على الحدود وفي المطارات، حيث على الموظف العربي أن يدقق أكثر، وأن يسأل، وأن يطلب مني بلطف أو غلظة أن أخرج من دور المصطفين، وأن أراجع موظفاً أمنياً عجولاً وجلفاً يجهد ليبدو طبيعياً عندما يفاجأ بأنني بلا ذَنَب أخفيه تحت بنطالي، وأنني أحدق في عينيه وأحاصره بالأسئلة الجارحة عن ذلك الخطأ الكوني الجسيم في أكون من غزة، وعن لا مبالاتي المستفزة فإذا كان غير مرحب بي فليقم السيد المرتبك بإعادتي على أول طائرة تغادر بلاده.

يا للمتعة!! كأن تكون على جرف وتهدد بإلقاء نفسك في الوادي، وهو لم يُحضّر لمثل هذه الخيارات الأقصوية ولا يفهمهما ولا يريدها. يريد وحسب ألا يخطئ بختم جواز سفري المؤقت فيُحاسب، فماذا لو كنت إرهابياً أو كائناً بجينات حيوانية، كأن يكون لي ذَنَب طويل أو أنياب طويلة تظهر فجأة بينما يسيل الدم من فمي؟

ما يحدث معي يحدث لغزة أيضاً التي تُدفع دوماً إلى الحافة، إلى التهديد برمي نفسها في الوادي، التي تحدق في عينيك، التي لتبقى تنتج صورتها، فإذا ما تراه على شاشات التلفزة يشبه ألعاب البلاي ستيشن: المسلحون الملثمون وهم يقفزون من الطائرات الشراعية الصغيرة، ثم يهبطون وهم يحملون بنادقهم، ثم يهرولون ويقتحمون مباني بطابق واحد وعليها نجوم سداسية زرقاء، ويطلقون النار. كما لو أنهم غير حقيقيين، ولكنهم حقيقيون وولدوا هناك، وكان عليهم أن ينتجوا صورتهم ليبقوا، مثلما كان عليّ أنا أن أفكك الصورة التي أنتجت عني في بلاد الآخرين. لقد ظلوا هناك، في بلادهم الصغيرة جداً، كأنها زنزانة لا تتسع لبناء مدافن لمن يموت فيها، فماذا عليهم أن يفعلوا؟ أن ينتصروا، لا لشيء ولكن ليتاح لهم أن يروا الجانب الآخر من الصورة، صورة تلك الأرض التي تدور عليها أكثر الحروب مرارة وبؤساً في التاريخ، تلك الأرض التي مذ فقدوها نُبِذوا حيثما ذهبوا، وحوصروا وشيطنوا فإذا هم عند أغلب الناس أقل من أن يكونوا بشراً، فإذا قتلتهم إسرائيل فذلك لأن عليهم أن يكونوا شهداء، وإذا حاولوا الفرار من مصيرهم أعيدوا إلى زنزانتهم ليتعلموا كيف يموتون بشكل أفضل. لقد حُبسوا في صورتهم وتطابقوا معها.

هل ما أراه حقيقي؟ هل نقوم نحن باجتياح تلك الأرض التي سيطر عليها ذلك الآخر الذي لم يكف عن التخطيط لإبعادنا عنها أكثر فأكثر لتكون له وحده، وإذا حدث ما تمنى فإلى أين نذهب؟ نجلس أمام شاشات التلفزة ونرى أبراج المراقبة العسكرية الإسرائيلية، الشوارع الفارغة في عسقلان وتل أبيب، كأننا نحضّر لتصوير فيلم وثائقي عن دهشة أولئك الذين لم يعيشوا هنا، في بلادهم، لنقول لهم إن الحرب بدأت تتغيّر، لا قواعدها بل طبيعتها، وإن أشجار الزيتون التي تظهر خلف مراسل تلك القناة أو سواها تصلح بوستراً دعائياً لمفهوم الحرب الجديد، حيث على أحدهم أن يقرّ أخيراً بأنّ أبناء ذلك القطاع، ليسوا بأذناب تحت سراويلهم، وأنهم بشر كسواهم، وبعضهم ينتحر من الكآبة كأنّه من بلدان شمال أوروبا، وآخر يكتب شعراً أو تعزف ابنته على البيانو، وأنهم ظلوا مقذوفين في فراغ العالم الموحش في انتظار حرب ما تسيل فيها الدماء ليعودوا إلى تلك الأرض الصغيرة التي فرّ منها آباؤهم خائفين من القتل، ويموتوا ويبحثوا عن قبر يحتويهم.

أنا من هناك يا بابا. أقول لابنتي عندما تسأل، وأنا أغالب رغبة جارفة بالبكاء.

المساهمون