شكّل رحيل نور الدين الصايل، في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2020، صدمةً فاجعة للسينما المغربيّة، ولجيلٍ "سينيفيليّ" كامل، راهن على السينما ومُتخيّلها، في وقت بدت السينما كأنّها ترفٌ مجتمعي، نظراً إلى تحوّلات سياسية واجتماعية عرفها المُجتمع المغربي منذ سبعينيات القرن الـ20. لكنّ هذا لم يمنع أستاذ الفلسفة، آنذاك، من الرهان على السينما، باعتبارها قوّة متأجّجة تصنع الفكر، وتعمل على تخييل التاريخ، وصنع واقع تخييلي كان المغرب يحتاج إليه للخروج من أساطير سياسية.
رغم أنّ مختلف التظاهرات السينمائية، وما شهدته من حراكٍ فني وجمالي منذ نهاية السبعينيات الماضية، ظلّت تتّسم بأبعادٍ سياسية يسارية بامتياز، لم يمنعها انخراط نور الدين الصايل (طنجة، 1948) في "حركة إلى الأمام" من اكتساح أوساط الثقافة المغربيّة، ومعها المثقف، الذي شرع يفكّر في قضايا السينما ومُتخيّلها وجماليّاتها، انطلاقاً من فيلموغرافيا مغربيّة محتشمة، بدأت معالمها تتشكّل منذ نهاية ستينيات القرن الـ20، إذ أدّى هذا التأثير السينمائي إلى ظهور ملاحق فنية شبه مُتخصّصة، تُعنى بالسينما، درساً وتفكيكاً وتنظيراً، كـ"أنوال"، الذي أشرف الصايل على صفحتها السينمائية، والفنان محمّد القاسمي على صفحتها التشكيلية.
إلى جانب مجلة Cinema 3، شجّع هذا الملحق على السينما في مواجهة حصار، فرضته الثقافة المغربيّة الشفهية، وتقوقعها حول الخطاب واللوغوس على حساب البصري. هذا الأخير غدا، في تلك المرحلة، عنصراً مُكوّناً للثقافة المغربيّة، وأحد أهم تيجانها وبنيانها في المرحلة اللاحقة (ثمانينيات القرن الـ20)، عندما باتت الملاحق والمجلات مرجعاً أكاديميّاً لباحثين عديدين، جعلوا السينما موضوعاً لبحوثهم الأكاديميّة في الأدب، قبل أنْ يتسرّب جوهر هذا الاهتمام، في الألفية الجديدة، إلى الفلسفة والتاريخ، وإنْ بدرجات مُتفاوتة، تحتكم في مُجملها إلى السياقات الفيلمية، والمفاهيم الجمالية، والنظريات السينمائية، على حساب نقدٍ سينمائي شغوف بتتبّع مراحل تشكّل الفيلم، وإبراز جماليّات صناعته وأهميّته ومدى تأثيره في بنية الفيلموغرافيا المغربيّة، قديماً وحديثاً.
هذا حاضرٌ في مقالات عدّة لنور الدين الصايل، أبرزت بقوّة هذه النظرة التفكيكية للفيلم السينمائيّ، علماً أنّ الصايل لم يُصدر كتاباً سينمائياً، بل فقط مقالات نقدية منشورة في صحف ومجلات صادرة في بلدان عربيّة مختلفة، باللغتين العربيّة والفرنسية. مقالات لا تزال تُمثّل اليوم عزفاً مُنفرداً في النقد السينمائي المغربي، بسبب ما تنضح به من جزالة قول، وقوّة تكثيف، ويناعة فكرٍ، يُضمر في طياته الكثير من التأمّل في الصناعة والتخييل السينمائيين. بما أنّ نور الدين الصايل خرّيج شعبة الفلسفة لا الإعلام، ابتعدت أفكاره ـ سنين عدّة ـ عن كلّ خطابٍ توعويّ، يُحاول أنْ يجعل من صاحبه داعية في السينما، بقدر ما جعل هذه الأخيرة الفضاء العام لاحتضان الأفكار، سياسياً واجتماعياً. كما عمل على جعل السينما قضية مركزية في الإنتاج الثقافي المغربي، خاصّة أنّ خطابه مُتحرّر من كلّ أشكال سُلط المفاهيم الفلسفية والنظريات السينمائية. فالنقد عنده يبدأ من الفيلم وينتهي فيه، من دون اللجوء إلى "ريبرتواره" الفكري أو تكوينه الفلسفي، اللذين ربما يُعيقان أيّ عملية نقدية، ويجعلها قابعة وتائهة في أنساق الفكر الفلسفي، الحديث والمعاصر.
لذا، تبقى كتابات الصايل، إلى حدّ بعيد، ذات خصوصية، تستند إلى تشريح الواقع، اجتماعياً وسياسياً، في الفيلم، بطريقة أضحت فيها كتاباته تحتلّ مكانة عضوية في النسيج الاجتماعي وعلاقته بالفيلم السينمائيّ. نقدٌ يحتكم، في شروطه ومواضعاته، إلى عوامل اجتماعية، تُحدّد هوية الفيلم، وتروم دائماً إلى تحديد عناصرها وقِواها في العمل السينمائي.
بهذه الطريقة، يغدو النقد مُساءلة ذاتية، تتبرّم عن الوصف والحكي والتاريخ لمضامين الصُور ومَشاهدها وسُلّم لقطاتها، مُستندة إلى نزعة توليدية، تقوم على بناء المعنى ورصد سيرة المُتخيّل والفكر والتاريخ في الفيلم، حتّى يُصبح النقد لدى الصايل مُتحرّراً من الموروث الفلسفي والجمالي.
هذه النزعة التوليديّة، التي تبنّاها الصايل في كتاباته، ساهمت مبدئياً في اجتراح لغة نقدية مُتخفِّفة من شوائب البلاغة الإنشائية والاستشهادات الفلسفية، التي يلجأ إليها البعض، غالباً، لإضاءة شيءٍ من العوالم الفكرية والجمالية للفيلم، رغم ما يطبعُها من تعميمٍ وإسقاط.
غير أنّ المسار، المُثير والمُدهش، في حياة نور الدين الصايل، لم يكُن فقط بسبب هذه المقالات القليلة والمُؤثرة، إذْ تشعّب أكثر، منذ منتصف السبعينيات الفائتة، إبّان تأسيس "الجامعة الوطنية للأندية السينمائية"، التي لعبت دوراً كبيراً في تشجيع السينما في المُجتمع المغربيّ حينها، بعرض أفلامٍ عالمية وعربيّة في عددٍ من المُدن، لا سيما في الهَوامش، التي وجدت في هذه الأندية ـ المُقامة في مجمّعات ومراكز ثقافية ودور شباب ـ مُتنفّساً قوّياً للتعرّف على ذخائر الفنّ السابع. حينها، كان يُعرض أسبوعياً أكثر من فيلمٍ، تتم مُناقشته بعد نهاية كلّ حصّة، ما أثار جدلاً سينمائياً مهمّاً، تسرّب وقعه إلى ملاحق ثقافية، بدأت تنتبه إلى وتُعنى بالمُتخيّل السينمائي، قبل ظهور مجلاّت طليعية.
رغم بُعدها الثقافي المحض، بدأت مجلاّت كهذه تُخصّص حيّزاً لمقالة أو مقالتين في كل عدد، رغبةً منها في التعريف بالسينما وصُوَرها وصناعتها، وجعلها تُشكّل هوية ثقافية مغربيّة، قِوامها الحداثة. هذه الأندية، التي بدأ يخفت وهجها مطلع الألفية الثالثة، كانت بمثابة إرهاصات لبوادر "النقد السينمائي" بطابعه الشفهي، إذ إنّ أسماءً عدّة، كانت على رأس الأندية، تحوّلت مع مرور الوقت إلى قوّة نقدية متأجّجة في الصحف المغربيّة، اليسارية تحديداً، بسبب سيطرة المفاهيم الجدلية والفصائل الماركسية، بأنواعها المختلفة، على الأندية، وجعل "العملية السينمائية"، بدءاً من مرحلتي الإعداد والعرض، تأخذ ميسماً عضوياً على الطريقة الغْرامشية، بأدوات عرض تقليدية، ومنشورات وأفلام بالأسود والأبيض، لكنّها كانت مُؤثّرة على واقع السينما في المغرب.
حركة الأندية السينمائية تلك اخترقت بنية الثقافة التقليدية، وجعلت من مشروع حلم السينما في المغرب مُمكناً وقابلاً للتحقّق، في ثمانينيات القرن الـ20، التي بدأت تظهر فيها عوامل التجريب والحداثة في الفيلموغرافيا المغربيّة، وتتطلّع إلى إبراز هويتها وجمالياتها على مستوى الصنعة والتخييل. وهذا كلّه بفضل مناضلٍ مثل نور الدين الصايل، الذي لم تقتصر نضالاته في حركة الأندية فقط، بقدر ما تأجّجت مع عمله في "القناة الثانية" و"المركز السينمائي المغربي"، والقفزة التي ستحقّقها السينما المغربيّة على مستوى سياسات تخطيط الدعم والبرامج الفنية التلفزيونية ووسائط العرض، التي منحت السينما المغربيّة حياة ثانية غلى الشاشة الصغيرة، وفنونها.