يحصل أنْ يُقدِّم نجمٌ سينمائي دوراً أو أكثر، تقلّ أهميته الفنية والدرامية والجمالية عن أدوار سابقة له. يزداد الوضع سوءاً حين يعتاد النجم أدواراً لا علاقة لها بأي اختلافٍ أو تطوير أو بلورة. أي حين يحافظ على رداءةٍ، أو على شيءٍ قليلٍ من صحّةِ تمثيلٍ محترف، في سيرة مهنية تمتدّ على سنين كثيرة. الأسوأ أيضاً يكمن في عودة النجم إلى التمثيل بعد غياب أعوامٍ عدّة، لكنّه يظهر كأنْ لا شيء تغيّر، لا في العالم ولا فيه.
يحصل أيضاً أنْ يبرز أحدهم كاتباً مسرحياً، يُتقن صُنعته الأدبية والفنية والدرامية، وهذه مُعرّضةٌ لنقاشٍ وتفكيك، ثم ينتقل إلى التمثيل السينمائيّ، فيكشف عن بهتانٍ حادٍّ في أدائه وحركته ونبرته وملامحه وانفعالاته وتعبيره، وإنْ يكن مخرج هذا الفيلم أو ذاك بارعاً في صُنع ما يصبو إليه.
البلجيكي جان ـ كلود فاندام واللبناني الكندي (كيبيك) وجدي معوّض نموذجان.
بطل أبطال العضلات المفتولة يظهر، مجدّداً، في دورٍ تمثيلي لن يكون امتداداً لأدوارٍ ومهنةٍ، بل يأتي انقلاباً على رداءةٍ تسم اشتغالاته الخالية كلّها، تقريباً، من أي فعلٍ يُثير انتباهاً أو متعةً. سيرته تمتلك عناوين متشابهة في المطاردات والعراك بالأيدي والنزاعات المسلّحة والبطولات الخارقة، وهذه تختلف كثيراً عن تلك المعروفة في الـ"كوميكس"، وإنْ تتشابه معها في عدم معقوليّة أفعالها. "القرصان الأخير" (2021) للفرنسي ديفيد شارون ("نتفليكس"، منذ 30 يوليو/ تموز 2021) مثلٌ واضحٌ على تراجعٍ كبيرٍ في المستوى، السيئ أصلاً، للممثل، بالإضافة إلى انعدام حِرفية كتابةٍ، تتعلّق بالحبكة والمعالجة والسياق، بينما الشخصيات ساذجة، أو ربما يُراد لها أنْ تكون ساذجة في زمن إيمانويل ماكرون، الذي تظهر صورته الرسمية في لقطةٍ سريعة، بالتزامن مع أداء شخصيتين أمنيّتين ذروة السذاجة والسطحية.
أمّا المسرحيّ، المتنقّل بين الكتابة (مسرحاً ورواية) والإخراج والتمثيل، فيعكس أحد معاني البهتان الأدائي أمام كاميرا سينمائية، رغم ندرة ذلك، لاهتمامه الأول بالمسرح وعالمه. مشاركته في "سماوات لبنان" (2020) للفرنسية كلوي مزلو (عنوانه الفرنسي مختلف: "تحت سماء أليس")، المختار في النسخة الـ59 (2020) لـ"أسبوع النقّاد" في مهرجان "كانّ" السينمائيّ (الملغاة بسبب تفشّي وباء كورونا)، دليلٌ على أنّ البهتان سمة أداءٍ مفرَّغ من مقوماته الاحترافية العادية. تأديته شخصية جوزف قمر تخلو من كلّ ما يصنع الإنسان، جسداً وروحاً وتفكيراً وانفعالاً وتواصلاً وتعبيراً. جامدٌ كصخرة في اللحظات والمواقف والحالات والأحاسيس كلّها. هذا لا علاقة له بمهنة الشخصية كعالِمٍ، يجهد في صُنع صاروخٍ يحمل أول رائد فضاء لبناني إلى القمر (اسم العائلة أيضاً)، بل بانعدام المهنيّة والحِرفية لدى من يؤدّي الشخصية.
يتشابه "القرصان الأخير" و"سماوات لبنان" في مسائل عدّة: نصّ فارغ لحكاية عادية؛ تمثيل لا علاقة له بفنّ الأداء؛ مغامرات وأحوال مملّة. مع أنّ "سماوات لبنان" يجهد في اختزال تاريخٍ للبنان، يمتدّ من خمسينيات القرن الـ20 إلى الأعوام القليلة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، لكنّه يفشل في تكثيف حكاية العائلة ومساراتها وتبدّلات أحوالها ومتغيّرات البيئة التي تُقيم فيها؛ ومع أنّ النصّ (سيناريو مزلو وياسين باداي) يوحي بنواة درامية مفتوحة على الحبّ والصفاء وانقلاب الأقدار والعلاقة بهوية وأرضٍ وبلدٍ، والهوس بعلمٍ أو فنّ. هذا كلّه غير مُترجم بصرياً بقَدرٍ يكفي لمنح الفيلم صفة سينمائية، رغم أنّ محاولاتٍ عدّة تصنعها كلوي مزلو للقول إنّ في فيلمها هذا لقطات سينمائية، لا شكّ في أنّها موفّقة بتواضعٍ، لتمكّنها من جعل الصورة تسخر من واقعٍ، أو تبوح به بقهر ومرارة.
"القرصان الأخير" ثقيلٌ ومُملّ. مدّته (112 د.) أطول مما يُحتَمل، لما في سياقه من فراغاتٍ وتفاهات. لجان ـ كلود فاندام أدوار تشويق ومطاردات، يستخدم فيها عضلاته المفتولة ولياقته الجسدية بحِرفية أصدق من تلك المستخدمة في جديده هذا. قسوة ملامحه، ونظراته الجافة التي توحي بحزنٍ ما، مع أنّها تعكس صلابة وانعدام انفعالٍ، كما تقتضي شخصياته، تتحوّل إلى سذاجةٍ فاقعةٍ، تبدو انعكاساً لسذاجة مرحلة سياسية فرنسية، يتحكّم فيها (المرحلة) رئيسٌ منبوذ وضعيف واستعراضيّ.
لذا، أيكون البهتان الأدائي فنّاً جديداً في عالم التمثيل؟ أم أنّ الفيلمين مجرّد سقطةٍ لا أكثر؟