عن "صالون هدى" مُجدّداً: الحذف و"الأفلام الحساسة"

18 مارس 2022
هاني أبو أسعد: خطأ الحذف وخطيئة التمييز (تيم بي ويتْبي/Getty)
+ الخط -

 

لقرار المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد حذف مشهد العري من فيلمه الأخير، "صالون هدى" (2021)، نتيجتان سيئتان ومُسيئتان في آنٍ واحد، تُكمِل إحداهما الأخرى: الحذف بحدّ ذاته، وربط الحذف بالنسخ الموزّعة عربياً فقط. هذا مُثير لاستياءٍ وقلق، لن يحولا دون التأكيد على لا مشروعية الحرب المُعلنة على الفيلم ومخرجه، كما على الممثلتين ميساء عبد الهادي ومنال عوض تحديداً، بل على رفض تلك الحرب، التي يُرافقها تهديد بالقتل، بعد إطلاق اتهاماتٍ "أخلاقية" باهتة.

الحذف، بحدّ ذاته، لن يُخفِّف كثيراً من سطوة الحرب المُعلنة على "صالون هدى"، وعلى من وما فيه. فهدف الحرب غير مُرتبط بالعري وحده، وللجهات المُهاجِمة، كأفرادٍ عديدين، استعدادٌ غريبٌ لشنّ حربٍ ضروس على صنيع فني، انطلاقاً من أسبابٍ مبثوثة في النصّ وحواراته ومعالجته، قابلة (الأسباب نفسها) لكلّ نقاشٍ هادئ وسوي، ينجح هؤلاء، دائماً، في منعه أو تأجيله أو شطبه من المعادلة كلّياً. الحذف بحدّ ذاته لن يُسهِّل وظيفة النقد الهادئ والسوي، ولن يُلغي منعه أو تأجيله أو شطبه من المعادلة. لكنّه (الحذف) يُثير استياء من القرار، وقلقاً إزاء كيفية الاستمرار في مقاربة مسائل حسّاسة في المجتمع الفلسطيني.

أما ربط الحذف بالنسخ الموزّعة عربياً فإهانةٌ لذكاء مُشاهدين ومُشاهدات عرب كثيرين، ولكلّ مهتمّ بالسينما والثقافة والفنون والفكر والتأمّل، ولكلّ ساعٍ ـ رغم كل شيءٍ ـ إلى نقاشٍ نقدي هادئ وسويّ، ولكل مُدافعٍ عن حريةِ قول وتعبير، يتمنّى (هذا المُدافع) أنْ تكون تلك الحرية حاضرة في تفكير مهاجمي الفيلم ومهاجماته، بأنْ يقولوا رأياً ويُعبّروا عن موقفٍ ويناقشوا مضموناً وشكلاً، كي يحصل حوارٌ، بدل التهديد والتخوين والمطالبة بالمنع والقتل.

يصعب استدعاء أفلامٍ سابقة، تشهد على شيءٍ من هذا. الصراع السينمائيّ في الغرب، خاصة في هوليوود وتحديداً قبل ولادة "هوليوود الجديدة" نهاية ستينيات القرن الـ20، كامنٌ في سطوة منتجٍ على مشروع، وفرض شروطٍ معيّنة لإنتاجه، وتحديد نهايته، ومنع المخرج من تحقيق ما يرغب فيه. "هوليوود الجديدة" تنقلب على هذا، وتُحرِّر المخرج من سطوة الإنتاج، وتصنع سينما مختلفة عن تلك الحاضرة قبلاً، تتوافق مع تأمّلات المخرج ورغباته وهواجسه السينمائية وغير السينمائية. المشاكل اللاحقة تنحصر دائماً بين منتجٍ ومخرج، بينما قيام مخرجٍ بإنجاز نسختين، واحدة للاستهلاك المحلّي وواحدة للتصدير الخارجي، أمرٌ غير مُتَدَاولٍ سابقاً.

 

 

ما يفعله مخرجون/مخرجات، لهم/لهنّ أفلامٌ خاضعة ـ بشكلٍ أو بآخر ـ لانشغالات الجهة الإنتاجية، يكمن في "تصحيح" النسخة الأصلية في النسخة المُرمَّمة. جورج لوكاس وجيمس كاميرون مختلفان، إذْ يعترفان بأنّهما، في "حرب النجوم" (1977) للأول، وفي "تايتانيك" (1997) و"شبح تايتانيك" (وثاقي، 2003) للثاني، غير قادرَين على تحقيق كلّ ما يريدان، بسبب تقنياتٍ، ستُصبح متطوّرة بعد عشرات الأعوام على إنجازهما تلك الأفلام. الترميم يُتيح إضافة أو حذفاً، وهذا حاصلٌ مثلاً في النسخة المُرمّمة من الجزء الأول من "العرّاب" (1972)، بعد 50 عاماً على إنجازه.

للسوري الأميركي مصطفى العقّاد تجربةٌ، تتمثّل بإنجازه نسختين، باللغتين العربية والإنكليزية، لـ"الرسالة" (1976)، مع ممثلين وممثلات مختلفين للأدوار نفسها. هذا حاصلٌ في أفلام أجنبية أيضاً، كـFunny Games للنمساوي ميشائيل هانيكي، مُنجزاً نسخة نمساوية عام 1997، وثانية أميركية عام 2007. هذا تمرينٌ سينمائي، يراد له أنْ يكشف آفاقاً أخرى في صناعة كلّ نسخة، أو في صناعة نسختين معاً مع ممثلين وممثلات مختلفين.

أنْ يحذف مخرجٌ عربيّ لقطة أو مشهداً من فيلمه، لأنّ رقباء مختلفي الجهات والأشكال يرفضون أو يهاجمون أو يُهدّدون أو يمنعون، مسألة تُبرَّر، وإنْ تكن غير مقبولة. يرى مخرجون ومخرجات عربٌ أنْ الحذف يُتيح للفيلم عروضاً محلية، ولقاءات مع مشاهدين ومشاهدات. يُصرّ آخرون على رفض الحذف، فيُمنع الفيلم محلّياً. هذه مسائل معقّدة، تخضع غالباً للمخرج والمخرجة، ولما يعتبرانه الأنسب لهما ولما يصنعان. لكنّ حذف مخرجٍ لمشهدٍ من فيلمه في نسخٍ من دون أخرى، يُثبِّت ـ أكثر فأكثر ـ الرقابة الذاتية، ويسمح للرقابات الأخرى بمزيدٍ من السطوة، المستندة إلى تهديد وتخوين واتّهامات.

المصري محمد دياب يُقرّر سحب فيلمه كلّه من التداول، فالحملات ضد "أميرة" (2021) تُصيب المضمون برمّته. الحملات ضد "صالون هدى" غير مُكتفيةٍ بمشهد العري، رغم أنّ المشهدَ، المنوي حذفه من النسخ العربية، سبب إطلاق تلك الحملات الخطرة. قرار الحذف ("القدس العربي"، 13 مارس/آذار 2022) مترافقٌ وحذفه من "يوتيوب". هذا مُخيف، رغم أنّ عدم الرضوخ لمتشدّدين خطرين غير سهلٍ، في بيئات عربية موغلة في عنفٍ اجتماعي وارتباكات نفسية واهتراءات حياتية. لكنّ تمييزاً بين نسخٍ عربية وأخرى دولية مُسيء لكثيرين وكثيرات في البيئات العربية نفسها، الذين/اللواتي يواجهون ويُقارعون ويعملون ويقولون، بأفلامٍ وكتاباتٍ وتوجّهات ونقاشاتٍ.

المساهمون