عن "حَبْسة" بروس ويليس: اعتزالٌ قسري كأنّه "الموت قاسياً"

26 اغسطس 2022
بروس ويليس: بحثاً عن الكلام المفقود (جورج بيمنْتَل/WireImage)
+ الخط -

 

تنتهي السيرة المهنية لبروس ويليس (1955) في لحظةٍ غير متوقّعة. عطبٌ في النظام العصبي يفرض عليه عيشاً مختلفاً عن عمرٍ يُمضيه في تنويعٍ أدائيّ، يكشف تمكّنه من ارتكاب معصية الخروج من نمطٍ سينمائي (أفلام الحركة والتشويق)، يمنحه شهرةً وأرباحاً، إلى اختبارٍ تمثيليّ، يُحرّره من سطوة المطاردة والفساد والعالم السفلي، ويُتيح له تمريناً على فهمٍ أعمق لحالة وانفعال، وبحثٍ أدقّ في ذاتٍ فردية، بكوابيسها ومشاغلها وخيباتها وانكساراتها ورغباتها.

في 30 مارس/آذار 2022، تُعلن عائلته (زوجته إيما هامينغ وطليقته ديمي مور وبناته الخمس) إصابته بالحبسة، "ما يؤثّر على قدراته المعرفيّة". الحبسة "ارتباكٌ باللغة"، يقول علم الأمراض إنّها مُرتبطةٌ بالنظام العصبيّ المركزيّ للمرء. أصلُ الكلمة الفرنسية Aphasie (Aphasia بالإنكليزية) يونانيّ: "من دون كلام" (وأيضاً: "فقدان القدرة على الكلام"). هذا يعني اضطرابُ المُصاب به إزاء الكلمات، فيعجز عن ترتيبها في جمل متكاملة وواضحة ومفهومة.

فور شيوع الإعلان العائليّ، تصدر تعليقات وشهادات عدّة، تُفيد بأن هناك أمراً ما غير سليمٍ سابقاً، فالممثل يظهر مرتبكاً في أوقات التصوير، وإدارة أعماله تطلب تقليصاً لساعات التصوير، وللحوارات التي يُراد منه النطق بها. "منظمة جوائز رازي (Razzie Awards)"، الممنوحة لـ"أسوأ" الأفلام والعاملين/العاملات فيها (موقف ساخر من جوائز "أوسكار")، تُلغي جائزة "أسوأ ممثل" له، عن دوره في "خطيئة كونية (Cosmic Sin) لإدوارد جون دريك (2021)، التي اتُّفق على منحه إياها، قبل أيامٍ قليلة على الإعلان العائلي نفسه.

منذ 22 أغسطس/آب 2022، تعرض المنصّة الأميركية "أمازون برايم فيديو" فيلماً له، بعنوان "يوم للموت" (2022) لوَسْ ميلر، يندرج في إطار النوع المفضّل لديه: التشويق والمطاردة. هذا دافعٌ إلى التساؤل عن وضعه الصحي في فترة التصوير، إذْ تنقل آن بِنْسُل عن كورتس نيكولس، منتج الفيلم، قوله إنّ أحداً "غير منتبهٍ (حينها) إلى إشارات تعكس ما يمرّ به" (Tele-Loisirs، في 22/ 8/ 2022). فريق ويليس يُبلغ إدارة الإنتاج مسبقاً أنّ الممثل يُعاني صعوبات، مُحدّدين "إشاراتٍ"، يتوجّب على العاملين/العاملات في بلاتوهات التصوير البحث عنها: "فور ظهور ارتباكاتٍ لديه، سنتوقّف عن العمل، ونمنحه فترة استراحة ليستعيد قوّته. لكنّ مشكلاتٍ كهذه لم تحدث".

"يومٌ للموت" عاديّ للغاية: قتل عضو في عصابة، لحمايةِ خارجٍ من السجن بشروط، يفرض على "القاتل" دفع مليوني دولار أميركي لزعيم العصابة. هذا يحصل في بلدةٍ، رئيس شرطتها (ويليس) فاسدٌ. لا جديد في الحبكة والسرد والتفاصيل المبثوثة في أفلامٍ كثيرة، تُنجَز عن عصابات وجرائم وشرطة وبلدات. لا جديد في أداء بروس ويليس نفسه، المنسجم مع سيرته المهنيّة الخاصة بهذا النوع من الأفلام، و"الموت قاسياً" (ترجمة معتمدة عربياً للعنوان الإنكليزي Die Hard)، تحديداً بحلقته الأولى (1988، جون ماكتيرنان) أبرزها وأهمّها (هناك 4 حلقات إضافية).

 

 

أدوارٌ عدّة تساهم في صُنع تفصيلٍ أساسيّ في مهنته، وبعضها مرتبطٌ بالخيال العلمي. أفلامٌ فيها مُعطى سينمائيّ مفتوحٍ على أسئلة جمّة، تنبثق من ثنائية الحياة والموت، وتحاول إدراك معنى آخر للوجود والعلاقات. لتحقيق هذا، يتعاون مع مخرجين، يريدون أنْ تكون سينماهم أكثر من مرآة، وأعمق من حكاية، وأهمّ من تسلية، وإنْ تكن أفلامٌ لهم كهذه، أو بعضها على الأقلّ، مرآة وحكاية وتسلية، والتسلية تتناقض والمفهوم الهوليوودي لها.

اشتغالاته مع أم. نايت شامالان ولوك بيسّون وفرانك ميلر ونِك كاسّافيتس وباري ليفنسن وكوانتن تارانتينو وستيفن سودربيرغ وآخرين، وبعض الآخرين "فنان" في ابتكار أفلام "أكشن" غير تقليدية، تمنح صورة أخرى عن ممثّل يريد تأكيد مهنيّته من دون التورّط في أدوارٍ صعبة ومُعقّدة كلّياً، رغم أنّ له مع بعض هؤلاء أدواراً كهذه، يؤدّيها ببراعة وسحر، يظهران أيضاً في أفلامٍ تجمع الكوميديا بالعصابات والجواسيس.

حالياً، يواجِه بروس ويليس تحدّياً، تصعب (أو ربما تستحيل) غلبته. فقدان "اللغة"، بمعنى العجز عن قول أي شيء، قاسٍ، كالموت الذي يواجهه جون ماكلاين في ظروفٍ وأوقاتٍ وحالاتٍ مختلفة. المفردة العربية، التي تُترجم حالته، قاسيةٌ بدورها: فقدان القدرة على الكلام. هناك أيضاً "ارتباكٌ باللغة"، وهذا بدوره قاسٍ ومُخيف. الانغلاق على الذات لتشكيل عالمٍ شخصيّ، في حالة كهذه، اختبارٌ لفعلٍ جديد، لكنّ الالتفاف العائليّ حوله أكثر إفادة، لإبقائه على تواصلٍ ما مع العالم.

في مُرافقته كول سير (هالي جول أسْمِنت)، في "الحاسة السادسة" (1999) لشامالان، يعيش الدكتور مالكولم كرو (ويليس) تجربةً، يُدركها متأخّراً: رجلٌ ميت يعيش حياته ووظيفته كمُعالجٍ نفسيّ، ويجهد في إكمال علاجه لمُراهق "يرى أمواتاً". كرو غير منتبهٍ إلى ما يعنيه سير، وهذه لعبة رائعة لشامالان في إنجاز صدمةٍ، يشعر بها مُشاهد مهتمّ في كلّ مُشاهدةٍ، رغم إدراكه إياها.

أليس فقدان الكلام/ارتباك اللغة موتاً، لرجلٍ يرى "أحياء" حوله، لكنّه غير قادر على التواصل معهم كلامياً؟ وغير قادرٍ على قولٍ وتعبيرٍ ونطقٍ؟

أيّ قسوة هذه؟ أي حياةٍ؟ أي موت؟

المساهمون