عنف "أتينا" واقعي: صراعات عدّة بلغة سينمائية باهرة

15 فبراير 2023
رومان غافراس: براعة التقاط النبض الحيّ في "أتينا" (فيتّوريو تزونينو تشيلوتّو/Getty)
+ الخط -

 

كَمٌّ هائلٌ من العنف، يظهر في "أتينا" (2022، "نتفليكس") لرومان غافراس. هذا غير مخالفٍ لوقائع معروفة. الضواحي الباريسية، ومناطق كثيرة في فرنسا وأوروبا، تعاني مآزق جمّة، بعضها متأتٍ من بيئة المهاجرين العرب/الأفارقة. موضوعٌ يُثير قلقاً، أكثر من إثارته نقاشاً جدّياً، يُفترض به أنْ يبدأ بالسينما، أولاً وأساساً، لا بنقاشات غير سينمائية. غافراس بارعٌ في اشتغالاته التقنية والفنية والدرامية والجمالية. بارعٌ في إنجاز فيلمٍ، يمزج التشويقي والبوليسي والعائلي بالسياسي/الاجتماعي المبطّن، وبأسئلة الهوية والانتماء والواقع، والعلاقة بمكان وأناس.

مقتل مهاجر عربيّ، يُقيم في مجمّع سكني (أتينا)، يُشعل صراعاً، لن يكون صعباً تشبيهه بحربٍ، ولو مُصغّرة. ملصقٌ كبيرٌ، في لحظة درامية، يقول إنّ "حرباً" حاصلةٌ، الآن هنا. إشارة قاسية إلى مأزقٍ متنوّع الأشكال: أخلاقي، سياسي، اجتماعي، ثقافي. هذه تعابير يسهل استخدامها، لكنّ الواقع أقسى وأعنف وأخطر. سؤال الهجرة/الهوية/الانتماء/الاختلاط باقٍ من دون إجابة، أو أجوبة، حاسمة وواضحة، وفاعلة إيجابياً. مع غافراس، المسألة تجمع في مضمونها بين السينما وقسوة الواقع. التفكّك العائلي مخيف، فمقتل الشاب يكشف، من بين أمور عدّة، انهياراً عائلياً، لأنّ كلّ فردٍ منتمٍ إلى حيّز/مؤسّسة/مكان يختلف، قليلاً أو كثيراً (إلى حدّ التناقض أحياناً)، مع حيّز/مؤسّسة/مكان ينتمي إليه فردٌ آخر.

أشقاء في عائلة واحدة، تتعرّض لمُصابٍ أليم (مقتل فردٍ منها)، يتواجهون في لحظات مخيفة من عنفٍ متبادلٍ بين بيئة مهاجرة وشرطة/سلطة. الصراع لن يكون محصوراً بمواجهة السلطة (المتمثّلة بالشرطة) فقط، لأنّ انتماء أحدهم إلى الشرطة يُزيد الحالة توتّراً، والأخ غضباً وعنفاً، والدم سيكون كثيراً، والموت قاسٍ، والجريمة حاضرة، والخراب غير مُحتمل. شرطة وإجرامٌ (تجارة مخدرات) ومراهقة/بداية شباب مع ما تحمله من مشاعر وأفكار وإسقاطات وتربية ومسالك. "إجرام" الشرطة غير خفيّ، وإنْ يكن موارباً، فأفرادها بشرٌ لهم أفكار ومشاعر وتربية وثقافة، ومفاهيم متعلّقة بالآخر والهجرة والوطن والهوية. هذا غير ظاهر، لكنّ المواجهة تكشفه، والتشابه ـ في حالات مختلفة ـ بين الشرطة كأفراد، والمهاجرين كجماعة، يغلب عليها غضب وانتفاض وتمرّد، واضحٌ، وهذا يطرح سؤال الفرد الفرنسي أيضاً، في لحظةٍ كهذه، كما في لحظات أخرى، أهدأ وأقدر على نقاشٍ وكلامٍ أعمق.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في الجانب الحكائي، يُختَصر النصّ بلحظةٍ واحدة، ستكون نواة السرد اللاحق كلّه. يُقتل مراهقٌ برصاص الشرطة، فتندلع "أعمال شغبٍ" (الوصف الرسمي الدائم للسلطة/الشرطة) في ضاحية باريسية. المأزق أنّ للمقتول شقيقاً شرطيّاً، وآخر له أفعال جُرمية في المخدّرات، وثالث ـ سيكون الأصغر بينهما ـ غاضبٌ ومقهورٌ ورافضٌ ومواجِهٌ وعنيفٌ، ما يجعله "قائد" المواجهة العنفية مع رجال شرطةٍ، غير متمكّنين من اختراق ذاك الحيّز المكاني (الثقافي/الاجتماعي/البشري؟) من دون عنفٍ. هناك حضورٌ، وإنْ يكن عابراً، لأمٍ تحاول لملمة العائلة، وعيش الحِداد، وتلافي مصائب ربما تكون مقبلة.

الأم غير ظاهرة كثيراً، فالصراع بين "رجال"، والتفاصيل الجانبية لن تبقى جانبية، لأنّ رومان غافراس (كاتب السيناريو، بمشاركة لادج لي وإلياس بلقادر) يرتكز على مقوّمات واقعية للغاية، ويُدرك ـ كما يظهر في فيلمه هذا، على الأقلّ، وبمساعدة أناسٍ يعرفون أيضاً ـ كيفية تحويل الواقعي جداً إلى سينمائيّ باهر في نسج الحبكة، من دون إعلان مباشر (بما في المباشر من تفاهةٍ وادّعاءٍ ومبالغة) عن كلّ تلك الأسئلة والهواجس والوقائع، لأنّ غافراس نفسه يُتقن فنّ الصورة السينمائية في كشف شيءٍ، أو أكثر، من حالة أو واقع أو انفعال.

"يُقال" إنّ "أتينا" مُثيرٌ لنقاشٍ، سياسي/ثقافي/فكري، يُراد له، وإنْ ضمنياً، أي بشكلٍ غير مباشر، أنْ يُخفي جوهر النصّ الأصلي، بإطلاق أوصافٍ غير ملائمة له إطلاقاً. يمينٌ فرنسي، متطرّف وغير متطرّف (إنْ يكن هناك فرقٌ بينهما)، ويسار مرتبك ومنهار، وأصواتُ أناسٍ يدّعون "موضوعية" و"فهماً" و"ثقافة": هذا كلّه غير معنيّ بالسينما، اشتغالات ومفاهيم وقيماً وثقافة وصناعة (وهذا حاضرٌ جداً في "أتينا")، لأنّه راغبٌ، أو ربما يوحي بأنّه راغبٌ في تشويه المرويّ، بصرياً وسردياً وحكائياً، لمصلحة نزاعات سياسية، يقترب "أتينا" منها كثيراً.

أقول "يوحي"، لأنّ الشمولية والأحكام الصارمة ضررٌ بالنقد والقراءة والنقاش. و"أتينا" أهمّ من أنْ يُحصَر في كلامٍ غير سينمائيّ فقط.

المساهمون