علي شري: "كيف نكتب تاريخنا المبنيّ كلّه على العنف؟"

27 يوليو 2022
علي شري: الآثار النفسية للحرب الأهلية لا تزال في حياتنا (موقع "مهرجان كارلوفي فاري الـ56")
+ الخط -

علي شرّي فنان بصري لبناني، حقّق نجاحات دولية في مجالات شتى. يعمل في وسائط مختلفة: صُوَر متحرّكة، فيديو آرت، أفلام، متاحف. كما عمل مع علماء آثار وأنثروبولوجيا. مواليد 1976، تخرّج من الجامعة الأميركية في بيروت (اختصاص غرافيك)، وحصل على ماجستير الفنون المسرحية من أمستردام، وعلى الزمالة من جامعة هارفارد عام 2016.

فنان شامل. مشاريعه الفنية تتناول جغرافية العنف والتاريخ الاجتماعي ـ السياسي، والوضع المُعاصر للبنان. عُرضت أعماله في فرنسا وإنكلترا وأميركا وإيطاليا، ونال جوائز مختلفة، آخرها "الأسد الفضي" في "بينالي فينيسيا للفنون" (الدورة الـ59، 2022). عُرضت أفلامه الثلاثة في مهرجانات دولية عدّة.

بمناسبة عرض أحدث فيلمٍ له، "السد"، في برنامج "آفاق"، في الدورة الـ56 (1 ـ 9 يوليو/تموز 2022) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، بعد أسابيع قليلة على عرضه الدولي الأول في برنامج "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي، التقته "العربي الجديد" في هذا الحوار:

 

(*) أنت قادم من الفن التشكيلي. لماذا فكّرت في خوض تجربة الإخراج السينمائي؟

الاتجاه إلى السينما لم يكن فقط لصنع فيلم. لكنّ مشروعاً لي تطلّب معدّات لها علاقة بإمكانيات السينما. المشروع احتاج إلى إنتاجٍ وإمكانيات أكبر من الفن التشكيلي. تدريجياً، صار المشروع يكبر ويتّجه إلى السينما. المغامرة أخذتني إليها.

 

(*) هذه ليست تجربتك السينمائية الأولى، إذْ لك فيلمان قصيران. فهل كان لديك اهتمام بالسينما من قبل؟

أعتبر نفسي قادماً من عالم الفيديو، فأنا أعمل في الـ"فيديو آرت"، وأشتغل على الصورة المتحركة بأشكالها وأنواعها. لم أدرس السينما بشكلٍ كلاسيكي، بحيث أقول إنّي تخرّجت من معهد سينما، أو من أكاديمية تُدَرِّس السينما. أتيتُ من عالم الفن، الذي يهتم أكثر بالنسيج والبنية، وتركيبهما وتشابكهما وتلاحمهما معاً. أهتم بالملمس والتكوين والألوان، وبـ"الكادراج" السينمائي، كأنّي أصنع لوحة. فيلمايَ القصيران يُشبهان أسلوبي الفني في "السد".

 

(*) كأنّك لا تؤمن بحدود بين الأشكال الفنية والأنواع الفيلمية.

أعتقد ذلك. شخصياً، لا أظنّ أنّ الفنان التشكيلي، عندما يذهب إلى السينما ويصنع فيلماً، يتحوّل إلى فنان سينمائي. الفيلمُ جزءٌ من مشروع أكبر، أشتغل عليه منذ أعوام، والفيلمان القصيران، "القلق" و"الحفار"، جزء من هذا المشروع، الذي يبحث في جغرافية العنف، وكيف يُحوِّل العنفُ الأرضَ إلى مجال خصب، يُولِّد عنفاً جديداً.

صوّرت الفيلم الأول في لبنان، والثاني في الإمارات العربية المتحدة، في "مليحة". صوّرت "السد" في السودان. هناك استمرارية على هذا المشروع، حتى لو كنتُ أنفّذه سابقاً عبر الفن التشكيلي، والآن مع الفن السابع. في النهاية، هذا كلّه يُمثّل مشروعاً واحداً.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) هل تعتبر نفسك مخرجاً سينمائياً؟

طبعاً أحبّ أنْ أعتبر نفسي سينمائياً (يضحك). حديثي لا يعني أنّي أرفض أن أكون سينمائياً. لكنّي أحبّ التأكيد على المنطقة الفنية التي انطلقت منها، أي الفن التشكيلي.

 

(*) أنجزت فيلماً قصيراً عن الآثار، في أشهر موقع أثري في الشارقة، موقع "مليحة". ما علاقة هذا بجغرافية العنف؟

الموقع الأثري يضمّ مقابر، عمرها نحو 5 آلاف عامٍ، يحرسها عامل باكستاني. تقع المقابر بين "مليحة" و"جبل حفيت". يرصد الفيلم يوميات الحارس، الذي عاش 20 عاماً في الصحراء لحراسة المقابر، التي حُفِرت، واستُخرج ما فيها من رُفات، وُضعت في متحف الشارقة الوطني. أرى أنّ خطوة الحفر واستخراج بقايا الجثث فيها شيء من العنف، لأننا نُقلِق راحة الموتى ونزعجهم، حتى لو أنّ البقايا عظامٌ. صحيحٌ أننا نستفيد من هذه الاكتشافات، بوضعها في المتحف. لكننا نُقلق راحة هؤلاء الموتى.

في الفيلم، أهتمّ بالحارس، وأحكي معه عن علاقته بالمقابر. أسأله عمّا إذا كان يشعر بالخوف، لعيشه ليس فقط بين المقابر، بل بين حُفر فارغة أيضاً، خاصّة أنه من أكثر الأماكن عنفاً، عندما تحفر عميقاً وتُعيد المكان إلى ما قبل تحوّله إلى قبر، توضع فيه الجثث. حفر الآثار يبدأ من الزمن الحاضر ويتّجه إلى الماضي، وتتم العودة بشكل طبقات زمنية، كأنّ كلّ طبقة تُعيدنا إلى طبقة أقدم في الزمن، حتى نبلغ الزمن الذي يسبق وضع الجثة في القبر. أرى في ذلك شيئاً عنيفاً، إذا كنا نريد كتابة التاريخ بجوانبه كلّها.

 

(*) هل سمحوا لك بالتصوير في الشارقة، ومنحوك حرية تنفيذ هذا المضمون؟

طبعاً طبعاً، وعُرض الفيلم (يضحك). الموضوع لا يقتصر على الشارقة وحدها، بل يتضمن فكرة أوسع: كبشرٍ، كيف نكتب تاريخنا؟ ما هي المساحة والكيفية التي نكتب بهما تاريخنا؟ كيف تكتب المتاحف تاريخها؟ هذا كلّه مبني على عنفٍ. تاريخنا كلّه مليء بالعنف.

كذلك فيلمي المُصوّر في لبنان، يتناول العنف، فتاريخ لبنان كلّه عنف.

 

(*) "السد" مصنوع بروح وثائقية، إذ يُوحي طوال الوقت بأنه شريط وثائقي. لكنّ 3 مشاهد ربما تُشكّك في وثائقيّته، وتجعلنا ننحاز إلى الجانب الروائي: مشهد الكائن الخرافي، الذي يُشكِّل ضمير ماهر، الشخصية الأساسية، وعقله الباطن، إذْ يقول له كلمات تعبّر عن مخاوفه وقلقه؛ كذلك مشهد الحلم الذي يتكرّر، والصديق الذي مات. حتى لقطات الجرح بدت واقعية تماماً، بشكل مؤلم، لشدّة إتقانها، بخلاف ما نراه عادة في السينما العربية. هل كنت ترغب في المزج بين الأنواع الفيلمية؟

الفيلم ليس وثائقياً، بل روائي. كنتُ أقصد أنْ ألعب بهذا، عبر طريقة تصويري الفيلم، أي أنْ يتخيّل المتلقي أنه يُشاهد فيلماً وثائقياً، خاصة عندما نبدأ تصوير كمائن الطوب في السودان. المُشاهد ربما يتوقّع أنّ هذا المكان لا يستحق إلا فيلماً وثائقياً. كأنّنا محرومون من الخيال. كأنّ الجانب الروائي من السينما مُحَرَّمٌ على هذه المنطقة الجغرافية، كأنّها لا تصلح إلا للوثائقيّ. من هنا، ألعب مع المُشاهد، بتصوير كمائن الطوب والعمّال، فأمنحه شعوراً بأنّه يُشاهد قصّة واقعية.

هكذا أنطلق إلى الخيال والروائي، ثم الـ"سوبر فيكشن"، المتمثّل في الكائن الخرافي، إلى خيال عامل الطوب ماهر، وتفاصيل شخصيته. من هنا تأتي أهمية المشروع بالنسبة إليّ: التأكيد على أهمية الخيال، وضرورة أنْ يكون متلاصقاً مع الواقع، فالخيال أول عامل للتغيير السياسي، ويساعد على التعامل مع الفكرة السياسية. مثلا، يجعلنا نفكّر ونتخيّل كيف نغيّر الواقع الذي نعيشه، ويجعلنا قادرين على تخيّل عالمٍ مختلف، وإمكانية وجود عالم آخر، خاصة في ظلّ أنظمة قمعية تسلبنا، في أوقات كثيرة، هذه القدرة على تخيّل عالمٍ آخر، نستطيع أن نعيش فيه ونمارس حريتنا، كما فعل ويفعل حسن البشير وبشّار الأسد وحسن نصرالله، ومعظم الدول العربية، كأنّنا لا نستطيع العيش من دونهم.

بداية التغيير أنْ نستعيد مساحة الخيال، ونمارسه.

 

(*) كم استغرقَت كتابة سيناريو "السد" من الوقت؟ وهل تمّ تعديله كثيراً؟

بدأت الكتابة عام 2017، وأثناء التصوير عام 2019 في السودان، بدأت المظاهرات. كنا نصوّر عندما انطلقت المظاهرات ضد البشير، حتّى سقط. حينها، صوّرنا 8 أيام، واضطررنا للتوقّف ومغادرة البلد. عدت مجدّداً إلى الكتابة والاشتغال على السيناريو. كان ضرورياً جعلُ الثورة جزءاً من الفيلم، في الخلفية. عدنا إلى السودان عام 2020، لكن كورونا تفشّى، فتوقّفنا عن العمل. عدتُ إلى السيناريو مرة أخرى، بهدف تطويره.

 

(*) ما هو أكثر شيء مُدهش حصل معك أثناء التصوير؟

كلّ يوم، كنا نشاهد كيف تصل أخبار الثورة إلى العمال، وكيف تكون ردود أفعالهم، إذْ كانوا يتابعون أخبارها على هواتفهم المحمولة، وعبر التلفزيون والراديو، لكنْ من دون إظهار أي ردّ فعل، كأنّ هذا الحدث لا يخصهم، أو كأنّهم غير معنيين به. كأنّهم بعيدون عنه تماماً. كنتُ أهتمّ بهذه التفاصيل. هذه اللحظة التاريخية مهمّة في حياة الوطن، كيف تُعاش في الهوامش؟ كانوا يعيشون على هامش الحدث، كأنّهم في زمن مختلف، زمن يمتدّ على آلاف السنين من صناعة الطوب. أجسامهم تُكرّر حركات أناسٍ قبلهم، من آلاف السنين. لذلك، تبدو الثورة، رغم أهميتها، حدثاً ضئيل الحجم بالنسبة إلى الزمن الذي يعيشون فيه. لذا، يُوجد بُعدٌ، كأنّ هناك قصتين تسيران متوازيتين: قصة ماهر، والقصة الأخرى تصل كأنّها أصداء، أو صوت فقط، أو حتّى كضجيج يملأ الصمت الموجود في الكمينة.

 

(*) إضافة إلى الجماليات البصرية، هناك اهتمام واضح بالمؤثّرات الصوتية، ما يمنح "السد" أبعاداً أخرى.

أهتمّ كثيراً بالصوت، فهو عنصر أساسي، وأعتبره إحدى الشخصيات المهمة، خاصة أنْ لا كلام كثيراً في الفيلم. لذا، يصبح الصوت كأنّه موجٌ يحملنا أثناء السرد البصري. هذا الصوت يساهم في خلق الحالة التي نمرّ بها ونعيشها. قصة الصوت والصمت وُلدت مما عايشته هناك قبل التصوير، وأثناءه. فالعمال يعيشون قريبين جداً من بعضهم، وبينهم أخوة. يساعدون بعضهم البعض. كلّ يوم، هناك شخص يطبخ للجميع. لكنْ، في الوقت نفسه، يتحدّثون قليلاً. كلّ واحد منهم أحضر معه قصصه، لكنه لا يحكي عنها، ولا يخبر عن عائلته ومشاكله. كأنّهم جميعاً هنا فقط كي يشتغلوا، ثم يعودوا إلى أهاليهم. هذا الصمت تملأه أصوات المياه والراديو والهواء والرياح، وغيرها.

 

(*) هل اشتغلت على المؤثّرات الصوتية في الـ"سكريبت"، أم في المونتاج؟

نفّذت شريط الصوت في فرنسا، مع فريق فرنسي يهتمّ بالمؤثّرات الصوتية. أعيش في باريس، والإنتاج فرنسي. فريق العمل فرنسي لبناني سوداني.

لأنّي أعرف أنّ في الفيلم صمتاً كثيراً، كان لا بُدّ من الاهتمام الكبير بالصوت، لضبط زمن الصورة. حتى في الفيلمين القصيرين، اهتممت جداً بالصوت. كنتُ أصنع الصوت الذي أريده في الاستديو، لأتحكّم في كلّ تفصيلٍ، لأنّ شريط الصوت والمؤثرات يساعدان على تقبّل الفيلم وتحمّله، فمن دون الحكي، سيكون صعباً كثيراً.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) كيف كان استقبال جمهور "مهرجان كارلوفي فاري" للفيلم؟

في "كارلوفي فاري"، كان أول عرض لجمهور حقيقي. جمهور مهرجان "كانّ" محترفٌ أكثر: صناع سينما ونقّاد وصحافيون وموزعون من العالم. لذا، "كارلوفي فاري" يُعتبر أول عرض للجمهور العادي. كان هناك نقاش طويل معه بعد العروض. كنتُ أنتظر هذه اللحظة طويلاً، أنْ يأتي جمهور لمشاهدة فيلمٍ لا يعرف عنه شيئاً. هذا جميل، خاصة أنّه جمهور بعيد عن مشاكلنا وعن المنطقة. حتى لو كانوا لا يعرفون السودان ومشاكله والثورة التي فيه، تفاعلوا مع المضمون.

 

(*) مَنْ كان له تأثير عليك في اهتمامك بالصورة وموضوع العنف؟ عائلتك؟

(يضحك) أنا قادم من عائلة بعيدة عن الفن، لا علاقة لها به أبداً. إنّه اهتمام شخصي. كنت أهتم بالصور، ولديّ كاميرا منذ صغري. ربما لأني قادم من الفن التشكيلي، الذي تأثّرت به الفنون عموماً.

 

(*) متى بدأت تكتشف اهتمامك الأول بالصورة؟

ولدت عام 1976، في بداية الحرب (الحرب الأهلية اللبنانية المندلعة بين عامي 1975 و1990 ـ المحرّر). عندما انتهت الحرب، كنتُ أبلغ 16 عاماً. عشتُ كل هذه الفترة في بيروت. أعتقد أنّ هذا شكّل سحراً بالنسبة إليّ، أنْ أولد وأعيش في مدينةٍ، كانت حينها حطاماً، إذْ دُمّرت تماماً. في الوقت نفسه، في المدينة شيء ساكن جداً. فيها مادة للتصوير لا نراها في أماكن أخرى. لديّ صُور من تلك الفترة، التي فُتح فيها وسط بيروت بعد الحرب. صُور تُشعرني أنّي أكتشفت النصف الثاني من بيروت بعد الحرب، لأني ولدت في بيروت الغربية، وطوال الحرب لم أكن أعرف عن النصف الآخر شيئاً. أول زيارة لي إلى بيروت الشرقية حصلت بعد انتهاء الحرب. أي أنّ هناك نحو 17 عاماً من حياتي لم أعرف فيها شيئاً عن بيروت الشرقية، نصف المدينة. غريبٌ هذا الشعور: أنْ تعيش في مكان لا تراه ولا تعرفه.

 

(*) ولماذا الاهتمام بالجغرافيا والعنف؟

هذا أيضاً تعلّمته من بيروت. من فكرة أنّ الشخص يبقى حيّاً. فهل فعلاً هناك إنسان قادر على مقاومة صدمة الحرب والعنف، أم أنّ هناك شيئاً ما يموت فينا؟ فكرة أنّ الإنسان يبقى حيّاً، أرى فيها شيئاً عنيفاً، بعد كل هذه التجارب التي مرّ بها المرء في الحرب الأهلية. شخصياً، لم أُصب بجرح أو برصاص في جسدي. انتهت الحرب فجأة. قالوا لنا إنّ الحرب انتهت، وإنّ علينا ممارسة حياتنا بشكلٍ عادي. لم أشعر أنّي أعيش بشكل عادي. لم يكن هناك شيء مرئي أو محسوس.

لكنْ، فعلياً، كنتُ أشعر أنّ الحرب لم تنتهِ، لأنّ آثارها النفسية لا تزال موجودة في حياتنا. لذا، بدأت البحث عن العنف: كيف يسير، وكيف يتحوّل إلى غير مرئي. أحاول البحث عن كيف يتسلّل إلى حياتنا، وإلى العناصر كلّها: الأرض والتراب والهواء. ليس ضرورياً أنْ يمارس أحد العنف علينا فيزيائياً أو بشكلٍ ملموس، لكن العناصر السابقة كلّها تجعل الأرض تُنبت عنفاً، وتصير خصبة لاستمراره، لأنّها تشرّبته.

هذا آتٍ من تجربتي وحياتي، ومحاولتي فهم التجارب التي عشناها في الحرب.

المساهمون