جاءت المشاركة الأولى لعلي إسماعيل (1922 - 1974) في السينما من خلال عزفه على آلة الكلارينت في فيلم "غزل البنات" (1949)، حين ضمه عبد الوهاب إلى الفرقة التي كان لها ظهور خاص في أحد مشاهد الفيلم، إلا أن بدايته مؤلفاً للموسيقى تمهلت بضع سنين، عندما قدم تتر البداية لفيلم "بنت الشاطئ" (1952). قبل أن يعرف إسماعيل طريقه إلى السينما، كان عازفا للبيانو والساكسفون والكلارينت في كازينوهات شارع عماد الدين، ليؤسس فرقة للجاز، حظيت ببعض الشهرة، أهّلته أن يمسي رئيساً لفرقة الأختين رتيبة وإنصاف رشدي؛ أشهر ثنائي غنائي خلال الأربعينيات، كما لحن المونولوغ في تلك الفترة التي ازدهر فيها هذا اللون الموسيقي. ومن أهم من تعاون معهم حينذاك، ثريا حلمي وبِبا عز الدين وإسماعيل ياسين وشكوكو.
من الإذاعة
درس علي إسماعيل في المعهد العالي للموسيقى المسرحية (فؤاد الأول) خلال فترة تجنيده في الجيش، وازدحمت دفعته بعدد كبير من الأسماء التي ستمسي أبرز نجوم عالم الغناء والموسيقى، مثل عبد العظيم عبد الحق وعبد الحليم حافظ وكمال الطويل وفايدة كامل وأحمد فؤاد حسن. وفي قسم الآلات، زامَلَ عبد الحليم؛ إذ تعلّم العزف على آلتي الأوبوا والساكسفون، وأضاف إليهما بعد ذلك البيانو والكلارينت.
جاءت الانطلاقة الأهم للملحن الشاب حين شجعه محمد حسن الشجاعي المشرف على قسم الموسيقى والغناء في الإذاعة على الالتحاق بها. وبواسطة أغنية لا تزيد مدتها على ثلاث دقائق، ألزمته الإذاعة بإنتاجها، تخطى الاختبار ليُعتمد ملحناً (1954). خلال عامه الأول، لحن ووزع 14 أغنية اتسمت بإيقاعاتها الراقصة لزميل المعهد وصديقه القديم عبد الحليم حافظ، ومن أشهرها "مفرق النخيل" و"يا مغرمين" و"الجدول" و"متصدقنيش".
دعم نجاحه في هذه المرحلة نشيد كان له صدى واسع خلال حرب 1956، هو "دع سمائي" لفايدة كامل. وينقل الرواة أن المقاومة الشعبية في مدن القناة كانت تطوف الشوارع بالأغنية عبر سيارات تحمل مكبرات صوت، لما كان للنشيد من أثر بالغ في بث الحماسة في نفوس المقاومين، وحرّض ذلك قوات الاحتلال على استهداف النغم المقاوم.
"الثلاثي المرح" وفرقة رضا
أنجز علي إسماعيل بعدها تجربة من أشهر تجاربه وأنجحها عندما التقى بـ"الثلاثي المرح"، الفرقة الغنائية التي تكونت من ثلاثة أصوات نسائية، هن سناء وصفاء ووفاء، ليتعرف عليهن أثناء اختبارهن في الإذاعة، ويقدم معهن لوناً غنائياً جديداً متفجراً بالخفة والمرح، انسل منه عدد كبير من الأغاني التي أمست علامات على المناسبات المختلفة. ومن هذه الأعمال "أهو جه يا ولاد" و"وحوي يا وحوي" و"سبحة رمضان" و"افرحوا يا بنات" و"العتبة جزاز" و"يا أسمر يا سكر" و"منتاش خيالي يا وله" و"حلاوة شمسنا".
في تلك المرحلة، أشاع علي إسماعيل استعمال الهارموني في الأغنية، ليقدم تجربة ثانية نافست الأولى في الشهرة والنجاح، وهي تجربة فرقة رضا للفنون الشعبية، التي أسسها إسماعيل مع الأخوين علي ومحمود رضا.
اعتاد الموسيقي على الانتقال من بلد لآخر، قبل وضع موسيقى الاستعراضات المرتبطة ببيئات محلية معينة، حتى يتعرف إلى مفرداتها وتراثها من أجل تحديد الآلات المستخدمة في اللحن وطبيعته، يكشف عن هذا الاعتناء، على سبيل المثال، استعراض من أشهر استعراضات الفرقة "الأقصر بلدنا"؛ إذ استوحى إسماعيل إيقاع الأغنية من حدوة الخيل التي تنتشر سباقاته في المدينة، ويكثر استعماله في أغراض سياحية.
قدرة إسماعيل على التوفيق بين النغمة الموسيقية والخطوة الاستعراضية، انعكست نجاحاً كبيراً حققته الفرقة آنذاك، فكان يضع الموسيقى بعد أن يفرغ محمود رضا من تصميم الرقصة، وليس العكس، مثلما كان شائعاً. هذا الترتيب الجديد زاد من صعوبة إخراج الألحان، لكنه كفل درجة من الإتقان بلغتها الاستعراضات، وحققت لها الشهرة في وقت قصير.
استثمرت فرقة رضا ذيوع فنها عبر فيلمين قدما صورة سينمائية جديدة، فشارك جميع أعضاء الفرقة في التمثيل والغناء والرقص، أما الفيلمان فهما "إجازة نص السنة" (1962) و"غرام في الكرنك" (1967)، ليضع إسماعيل موسيقى الاستعراضات والموسيقى التصويرية للعملين، تبعهما عمل ثالث، أقل شهرة وهو فيلم "حرام الورقة" (1970).
سبق هذه الأعمال وتبعها عدد كبير من الأفلام تجاوز الـ300 عمل سينمائي، ألّف لها إسماعيل الموسيقى التصويرية والأغاني التي تضمنتها كثير من تلك الأعمال، من أبرزها: "بين القصرين"، و"أبي فوق الشجرة"، و"الاختيار"، و"الأرض"، و"صغيرة على الحب"، و"الأيدي الناعمة"، و"الشموع السوداء"، و"إضراب الشحاتين"، و"لا تكذبي"، و"معبودة الجماهير"، و"ثرثرة فوق النيل".
جبال الشوك
تبينت في عديد من تلك الأعمال قدرة لإسماعيل فاق بها غيره من المؤلفين الموسيقيين في تلك الحقبة، إذ استطاع تطويع الموسيقى حتى تمسي جزءاً من اللقطة السينمائية. ويمكن تتبع ذلك في أعمال من قبيل "الأرض" و"الأيدي الناعمة". في الوقت نفسه، روض الصوت البشري ليلعب دور الآلة الموسيقية، مستهدفاً بهذا تدعيم التعبير الدرامي وتعميق الإحساس بالموقف التمثيلي، من ذلك استعماله للأصوات النسائية (السوبرانو) في عدد من أعماله السينمائية والأغاني التي حملت طابع المونولوغ، مثلما جاء في أغنيتي "ذكريات" و"المسيح" لعبد الحليم حافظ.
الموسيقي الشغوف بالجديد دائماً، كانت له تجربتان أقل شهرة من سابقتهما، فرقة رضا و"الثلاثي المرح"، لتؤكد هذه التجارب نزوعاً إلى التجريب. التجربة الأولى، استقدم عبرها مغنية أوبرا، هي سهير حشمت، وخصها بعدد من ألحانه، من أبرزها "النار والزيتون"، و"جبال الشوك" من شعر محمود درويش الذي تطلب صياغة لحنية مختلفة هي أقرب إلى التأليف الموسيقي منه للحن، وجاء ذلك من خلال مسرحية "النار والزيتون" التي تناولت القضية الفلسطينية وعُرضت المسرحية سنة 1970.
التجربة الأخرى كانت مع عايدة الشاعر التي وجهها الموسيقي إلى اللون الشعبي، ليلحن لها أغاني ذاعت بشكل كبير، مثل "كايدة العزال أنا من يومي" و"فالح يا وله" و"ليمونة" و"الطشت قالي"، التي جاءت ضمن السياق الدرامي لفيلم "ثرثرة فوق النيل".
هزيمة ونصر
من أهم المساحات التي أظلها إبداع علي إسماعيل، مساحة الأغنية الوطنية، فإلى جانب "دع سمائي" لفايدة كامل التي عُدت النشيد غير الرسمي للمقاومة الشعبية في مدن القناة أثناء حرب 1956، لحن إسماعيل النشيد الوطني الفلسطيني، "فدائي"، وكان من أهم ما قدمه خلال تلك الفترة أيضاً، توزيعه للعملين المهمين "حكاية شعب" و"وطني الأكبر". وقبيل حرب 1967، شارك علي إسماعيل في التعبئة الموسيقية التي دعت إليها الإذاعة المصرية، إذ تولى التوزيع الموسيقي لعدد كبير من الأغاني الوطنية في حين كتب كلماتها عبد الرحمن الأبنودي ولحّنها كمال الطويل.
تنافست هذه الأغاني في عنف كلماتها وحماسة موسيقاها مع البيانات العسكرية وقتها، منها "ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار"، و"يا استعمار"، و"راية العرب"، و"احلف بسماها وبترابها"، و"يا بركان الغضب".
كما لحن عدداً آخر منها أغنية "بالدم"، لكن ذلك لم يحجز الهزيمة، ليسلم الفنان المرهف نفسه وقتها، تحت وقع كابوس النكسة، إلى إحدى المصحات النفسية. وحين تحقق النصر في أكتوبر 1973 خصه القدر، ربما تقديراً لشعوره الوطني الفياض، بالأغنية الوطنية الأولى التي بثتها الإذاعة، إذ صادف أن انتهى المخرج يوسف شاهين من فيلم "العصفور" الذي وضع له إسماعيل موسيقاه التصويرية، وتضمن العمل أغنية من تلحينه، هي "رايحين شايلين في إيدنا سلاح"، ليهدي شاهين الأغنية إلى الإذاعة.
وفي تلك الفترة، أطلق إسماعيل أيضاً أغنية "أم البطل"، لشريفة فاضل.
ولد علي إسماعيل في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول 1922، ورحل في السادس عشر من يونيو/حزيران 1974، أثناء بروفة أحد الأعمال المسرحية التي كان بصدد وضع الموسيقى والألحان الخاصة بها، لتكون آخر أعماله والتي عرضت بعيد رحيله، الموسيقى التصويرية لـ"مولد يا دنيا" و"لا شيء يهم".