ألقى منشور صغير عبر منصة فيسبوك بظلاله الكبيرة على الفنانين والمثقفين وأثار جدلاً واسعاً وحزناً في مصر، إذ عرض فيه ملاك قصر أتيليه الإسكندرية عقارهم للبيع، وهو ما نكأ جراح الفنانين والمثقفين وأعاد لهم ذكريات التاريخ الثقافي المبهر الذي شهدته أروقة القصر على مر العقود.
ويعتبر أتيليه الإسكندرية التابع لجماعة الفنانين والكُتاب من أقدم الصروح الثقافية في مصر، فقد تأسس عام 1935 في محافظة الإسكندرية، شمالي مصر، ويعتبره المثقفون والأدباء بمثابة هرم المدينة الثقافي، بعدما بقي معقلاً للثقافة والتنوير بالمدينة وقلعة للأدباء والرسامين والنحاتين والشعراء والموسيقيين على مدار قرابة 90 عاماً، حتى تمكن ملاكه الأصليون من استرداده عبر حكم قضائي نهائي واجب النفاذ، صدر في عام 2021.
وجاء نص المنشور كالتالي: "فيلا للبيع على مساحة 1800 متر في أرقى مناطق الإسكندرية، تقع في موقع مميز جدا في الحي اللاتيني بجانب المتحف الروماني، وعلى بعد خطوات قليلة من شارع فؤاد، تصلح سكناً أو نشاطاً تجارياً، المبني على 900 متر، جاردن 900 متر، الفيلا تحتوي على دورين ورؤوف، 20 غرفة، و7 حمامات، ومطبخ، وبدروم".
وقال المثقف والحكواتي السكندري تامر صلاح، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "منشوراً صغيراً قد يبدو مجرد إعلان للوهلة الأولى، يحمل في طياته الكثير من المشاعر والذكريات للفنانين والمثقفين الذين شاركوا في رحلة أتيليه الإسكندرية الفريدة".
ولفت إلى أنّ الإعلان عن بيع القصر الذي كان مقراً للأتيليه "شكّل صدمة وخسارة لمحبي الثقافة والفنون، إذ كان يعتبر مركزاً هاماً لتبادل الأفكار والإلهام، وشهد تجمع المثقفين والفنانين والمبدعين من جميع الأنواع والتخصصات، واستضاف الورش الفنية والمعارض والعروض المسرحية والندوات وورش الكتابة، إلى جانب مشاركته في المهرجانات الدولية"، مشيراً إلى أنّه "شكل محطة جذب لكل من يسعى للتعبير عن إبداعه ومشاركته مع الآخرين".
ونبّه إلى أنّ القصر مسجل باعتباره أثراً إسلامياً بالقرار الوزاري رقم 538 لسنة 1996، ومدرج بسجل مجلد الحفاظ على التراث وفقاً لقانون الحفاظ على المباني التراثية ذات الطراز المعماري رقم 144 لسنة 2006 برقم كودي 1346.
فيما قال رئيس اللجنة الثقافية السابق بالأتيليه، رئيس النقابات الفرعية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر جابر بسيوني، لـ"العربي الجديد"، إنّه يشعر بخيبة أمل كبيرة لعرض القصر للبيع، بعد أن كان مقراً للأتيليه منذ تأسيسه على يد محمد ناجي وجاستون زنانير عام 1934، مشيراً إلى أن "منشور عرضه للبيع أعاد إلى أذهان المثقفين وعود المسؤولين التي لم تتحقق عن توفير بديل يليق بالثقافة الإسكندرية"، وذلك على الرغم من مرور أكثر من عام على طرد فريقه من المبنى الأثري، وهو ما يعرضه للنسيان وطمس هويته وأهميته الثقافية.
وأشار إلى أن المصير نفسه واجه مركز الكتاب التابع لوزارة الثقافة، الموجود في شارع سعد زغلول، بعد إخلاء مقره وتسليمه لملاكه، مشبهاً ما يجري بفيروس أصاب الحركة الثقافية التنويرية والأدبية في مصر، إذ لقيت دار الأدباء بالقاهرة المصير نفسه أيضاً، وكذلك مجلة دار الأدباء ونادي القصة الموجود في القصر العيني.
وأوضح بسيوني أنّهم استعادوا بعض المقتنيات الخاصة بالأتيليه، ونقل بعضها منها إلى مقر الإدارة الحالي، ولكن "لا تزال هناك بعض الأشياء المهمة محتجزة لدى الملاك"، ولفت إلى أنهم لجأوا إلى منطقة آثار الإسكندرية للحصول على بقية مقتنياته التي ما زالت تحت يد ملاك القصر، مشيراً إلى أن المقر الحالي الذي يستخدمونه غير ملائم لأنشطتهم الثقافية، إذ يتكون من شقة صغيرة في منطقة متواضعة، وهو ما يهدد مستقبل مسيرتهم الثقافية، وقد يؤدي إلى نسيانهم تماماً.
واعتبر الكاتب والناقد الأدبي محمد علي فاروق أن بيع القصر "يوم حزين في تاريخ الإسكندرية الثقافي والفني"، ويضع "نقطة النهاية لمركز مهم للتبادل الثقافي والإبداعي بالمدينة بعدما صدر أخيراً حكم يقضي بإنهاء العلاقة الإيجارية بين الأتيليه ومُلّاك المبنى".
وأكد لـ"العربي الجديد" أن "القيمة الثقافية والتنويرية للقصر لا يمكن استبدالها"، داعياً إلى عدم التفريط بالمعلم التاريخي من أجل "الحفاظ على البعد الثقافي والفني والفكري للمدينة".
وأضاف: "كان مقر أتيليه الإسكندرية يحمل بين جدرانه المئات من القصص الثقافية الرائعة واللحظات الفنية المميزة التي لن تتكرر، وتسبب استرداده من قبل ملاكه ثم عرضه للبيع بحزن عميق، وفتح المجال للسؤال عن مستقبل الثقافة والفن في المدينة، والخطوات المطلوبة للحفاظ على هذا الإرث الثقافي العظيم، وهل سيجد الفنانون والمثقفون مكاناً آخر يستطيعون فيه التعبير عن إبداعاتهم والتواصل بعضهم مع بعض؟".
ورأت الفنانة التشكيلية سميرة عز الدين أن بيع القصر في حد ذاته ليس مكمن الأزمة، إذ إنه "فقد دوره الثقافي منذ عام مضى بعد نقل أتيلية الاسكندرية من موقعه التاريخي ليستقر به الحال في شقة متواضعة لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، ولكن رمزية ذلك البيع تسلط الضوء على التفريط بالتراث الثقافي للإسكندرية".
وطالبت في حديث مع "العربي الجديد"، بأن "تتدخل الدولة لتوفير مقر ملائم لاستمرار أنشطة أتيليه الإسكندرية، الذي يسبق في إنشائه أتيليه القاهرة بنحو 20 عاماً، ودعم دوره الهام في دعم المواهب الشابة وتشجيع الفنانين الناشئين".
واعتبرت أن "غياب مقر مناسب كان له أثر سلبي على الحركة الثقافية بشكل عام، وأوقف مساهمات المثقفين في تطوير العقول ودعم الحركة الثقافية في المدينة".
وأوضح المستشار القانوني لمالكي العقار محمد جابر أنّ المبنى الأثري بني في العام 1893، وأن هناك سبعة أو ثمانية ملاك سابقين على للملاك الحاليين للمبنى، مشيراً إلى أن المالك الأساسي كان يوناني الجنسية، وباعه لتاجر أخشاب يهودي شامي اسمه يوسف فرج، الذي باعه بدوره إلى البنك الإيطالي بالإسكندرية.
وأضاف جابر: "العقار مكون من مبنيين وحديقة كبيرة، كانت جمعية أتيليه الإسكندرية تستخدم أحدهما وفقاً لعقد إيجار انتهت مدته، فيما كانت تستخدم المبنى الثاني والحديقة بدون وجه حق، ثم أصدر القضاء حكمه بأحقية الملاك الأصليين بالعقار. وهو الآن معروض للبيع بشكل قانوني وطبيعي".