عبير نعمة... أغنية للنسيان

02 أكتوبر 2022
صُمّمت "إعمل ناسيني" لأصوات متوسطة المدى ولأغراض ترفيهية (فيسبوك)
+ الخط -

طبع الملحن المصري الشاب، إيهاب عبد الواحد (1980)، الأغنية المصرية الحديثة ببصمته، منذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي. ارتبط اسمه بكاتب الأغاني أمير طعيمة. شكّلا معاً شراكة إنتاجية، قدّمت للسوق الموسيقية أغنية شاعرية خفيفة، تزوّق أجواء المقاهي والملاهي، وتُخفّف من حدة الضوضاء والتوتّر الذي يفرضه الزحام على قيادة السيارة في شوارع المدن العربية، كالقاهرة وبيروت.

نجح عبد الواحد، ومعه طعيمة، في اجتذاب أسماء غنائية لامعة، أسست لحضوره وأسهمت في شهرته. الكلمات بسيطة، نمطيّة ومألوفة، لا تستدعي جهداً ولا تترك أثراً. أما الألحان، فرقيقة، وسهلة المعالجة، نظراً إلى اعتمادها في الكتابة على مقامات شرقية غربية الصلة، خالية البُعيّدات، توفّر الانسجام التام، وبالتالي تفسح المجال أمام زخم توزيعي متعدد الآلات، لا يستفزّ الأذن، ويؤنسها بالرتابة ويجنّبها عناء التأهّب.

بهذا، فإن أغنية إيهاب عبد الواحد العصرية، أغنية جماهيرية بامتياز. منتجٌ تجاري غايته الترفيه وهدفه الربح، يُغطّي كُلف الإنتاج والتوزيع والتسويق، ويؤمن عائداتٍ للمُنتجين والمؤدين على حد سواء. كذلك فإنها أغنية معلّبة، لا تسعى للتفرّد، بقدر ما تسعى للتماهي، التماهي مع أوسع شريحة من المستمعين، بغرض كسب أكبر عددٍ من المستهلكين، سواء من طريق المعارض التسويقية التقليدية، أيّ وسائل الإعلام العامة والخاصة كالإذاعة والتلفزيون، أو المُحْدثة، كمنصّات العرض الرقمي على الإنترنت.

من بين الأسماء الغنائية اللامعة، انضمت أخيراً إلى مجموعة "زبائن" الملحن إيهاب عبد الواحد، وكاتب كلمات الأغاني أمير طعيمة، المغنية عبير نعمة. طرحت الفنانة اللبنانية أغنية مُفردة، بحكم أنها الأولى لها باللهجة المصرية، على أن تتخلل ألبوماً مُرتقباً، يُتوقع صدوره خلال الشهر الحالي. تحمل الأغنية عنوان "إعمل ناسيني"، من كلمات وألحان الثنائي سابق الذكر، ومن توزيع اللبناني سليمان دميان، الذي سبق له أن اشتغل لها على أكثر من لحن.

ليس ما يُميز عبير نعمة فقط، عن الأسماء الأخرى اللامعة، أن لها صوتاً قديراً، يجعلها واحدة من بين أفضل مغنيات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في القرن الحادي والعشرين، بل تمتعها بشخصية فنية خاصة، تملك مقومات التفرّد والذهاب بالأغنية العربية المعاصرة، إلى أبعد من مجرّد التماهي بالذائقة العامة ومحاباة السوق.

شخصيةٌ، أسهمت في تشكيلها عوامل، ترتبط بعموم السيرة، بالبيئة والنشأة، ثم بالمسيرة الفنية. أولاً، إن عبير سليلة الترتيل الكنسي الشامي، مدرسةٌ غنائية راسخة التقاليد في الشرق لقرون عديدة. ثانياً، هي مغنية مثقفة موسيقياً، بحكم تعلمها لأصول الغناء، والعزف على آلة القانون، ثم دراستها للعلوم الموسيقية والبحث فيها. أخيراً، لعبير نعمة أن تنتمي إلى أسرة فنية لبنانية تمتد أجيالاً، أسس لها الأخوان رحباني، إن لم تنعزل يوماً بصورة مطلقة عن الجماهير، إلا أنها ظلّت تنأى بنفسها عن مظاهر الجماهيرية التجارية المحضة.

بالنسبة إلى صوت نعمة، ومقومات الشخصية الفنية الخاصة لديها، تبدو "إعمل ناسيني" لإيهاب عبد الواحد أشبه بإناء صغير، إن سُكِب فيه عسلٌ كثيرٌ، لم ينل من العسل إلا قليلاً. أما كلّ العسل، فقد ذهب جُلّه هدراً وهباءً. فالأغنية مُعلّبة، خفيفة، صُمِّمت لأصوات متوسطة المدى، ولأغراض ترفيهية؛ وإن كانت قد أُنتجت بنوعية جيدة، فإنها لن ترقى بصوت فذّ. بل إنّ الصوت، إن كان فذاً، سيهبط بها ويهزُل، وسيفقد الكثير من مكامن حضوره ومواضع تأثيره، وذلك لخسارته المديات الفكرية والتعبيرية التي توُمنها له أغنية أعمق موضوعاً وأغنى صياغةً فنيةً.

لذلك فإن عبير نعمة، بأدائها أغنيةً من هذا القبيل، إنما تفقد بصمتها الفنية، التي لطالما ارتبطت بـ، ونتجت من، مقومات شخصيتها الفنية. بصمةٌ، وإن تكن قد جعلت من جمهورها أصغر عدداً، إلا أنه سيبقى أكبر حباً، وأعمق تقديراً. الحفاظ على البصمة الفنية من هذا المنطلق، ليس مجرد نهج نخبوي، فيه انكفاء عن متطلبات السوق، وترفّع على الذائقة العامة، بل هو بصمة أسلوبية، تمكّن الفنان من أن ينفرد بصوت خاص، يُميّزه عن غيره، وأن يتبنى لوناً غنائياً، يُسهم من خلاله، في تنويع المشهد الفني؛ فلو سمع المرء عبير في "إعمل ناسيني"، لالتبس عليه صوتها مع عديد المغنيات العربيات. فالأغنية كمُنتج موسيقي، ليست مجرّد عبوة تسويقية، تُغلّف صوت أيّ فنان كان من كان، بل هي البوابة الفكرية والجمالية التي تسمح لصوته، دون غيره، بالعبور إلى الجمهور.

مثل حينما شاركت في برنامج "سوبر ستار" الترفيهي المعروف، ثم من خلال أكثر من مناسبة صحافية أعربت عن ندمها بعد ذلك، بتقديمها أغنية كـ"إعمل ناسيني"، تُعبّر عبير نعمة عن أزمة عامة، بات يعاني منها معظم مجايليها، من بين المشتغلين بالموسيقى والغناء في العالم العربي، سواء في الموطن أو في المهجر، تُمكن تسميتها "رهاب الفوات" عند الفنان (FOMO: Fear of missing out)؛ أي حين يخشى الموسيقي، أو المغني، أو حتى المشتغل بالفنون البصرية، أن يفوته أي لونٍ فني، من دون أن يدركه ويُجرب به، فينسب نفسه إليه، جاعلاً من المرور على كل الألوان غايته الإبداعية وعلامته التجارية، محوّلاً مشواره المهني إلى أشبه بمكتبٍ للخدمات الفنية؛ "لدينا الكلاسيكي، ولدينا الجماهيري، لدينا الشرقي ولدينا الغربي، لدينا الصوتي ولدينا الإلكتروني، لدينا الشعبي ولدينا النخبوي".

قد تكون لتلك الظاهرة أسباب. منها، الرغبة بتوسيع مجال الإنتاج، وجني المزيد من المال. أو لعلها "أنا" الفنان زمن مواقع التواصل الاجتماعي و"صناعة المحتوى"، ترزح تحت ضغط الحضور الدائم في كل كان، وبأي ثمن. أم أنه مظهر الانفتاح إزاء كل خبرة وكل تجربة، التي بات على الجميع هذه الأيام أن يتحلى به. فليكن، إذ لا يعيب الفنان، وإنما يُغنيه أن يختبر ويجرّب ألواناً متعددة، وأن يلعب أدواراً مختلفة، فيوسّع من معارفه ومداركه. المشكلة تكمن، في أنه حين لا يتمعّن بخياراته، قد يُقدم على أعمال لا ترقى إليه، تُفقِده بصمته، وتحدّ من حضور شخصيته وتأثيرها في جمهوره؛ إنما الحياة قصيرة، وحياة الفنان أقصر.

المساهمون