استمع إلى الملخص
- **مواجهة التحديات المجتمعية والفنية**: ولد في حي فقير بسلا عام 1973، وانتقل إلى جنيف وباريس، حيث واجه صعوبات في تمويل أفلامه بسبب أسلوبه غير التقليدي، وقدم مساهمات في الخيال الكويري.
- **أسلوب سينمائي فريد**: يتميز الطايع بحساسية وروح شاعرية، معتمدًا على الإيحاء والاختزال، مما يجعل أعماله مميزة ومؤثرة رغم صعوبات التمويل.
عاش طفولته ومراهقته بين ستّ شقيقات، جميعهن أكبر منه بأعوام. بعينين مفتوحتين على اتساعهما، عاش تفاصيل من حياتهنّ، فالعالم الشاسع الذي خلقنه لأنفسهنّ كان يراه ساحراً. كُنّ يتحايلن على الفقر الشديد، الذي طبع طفولتهم جميعاً، وعلى ضغوط مجتمعية وحصارات رقابية. كان شاهداً على قصص الحب التي عِشنْها، وعلى الخطط التي دبّرنها. كان مرسال الغرام لهنّ أحياناً. كان يفعل ذلك بحبّ وإعجاب كبيرين: "كنت أُريد أن أكون في هذا العالم، وجزءاً منه".
لذا، ليس غريباً أن تكون شقيقاته مصدر إلهام روايته الأخيرة، "برج الدموع"، التي ربما تُصبح فيلماً سينمائياً جديداً له، ذات يوم، كما فعل بأعمال سابقة، كـ"جيش الإنقاذ" (2006)، التي أخرجها فيلماً (2013) عُرض في مهرجانات عدّة: "للواقع قيمة أدبية وإنسانية وثقافية، يُمكن أن تتحوّل إلى شعر أو أدب أو سينما".
عبد الله الطايع مخرج سينمائي وروائي مغربي، ألقى نظرة معمّقة على التبادل الأيديولوجي الشائك والعنيف، أحياناً كثيرة، بين أوروبا ما بعد الحداثة وأفريقيا ما بعد الاستعمار، بقدرته الأدبية على مواجهة التوقّعات الغربية مباشرة، وعدم الانصياع للنظرة الكولونيالية.
قدّم مساهمة قيّمة في الخيال الكويري، ووصف الفقر بأنّه "أصعب من المثلية الجنسية". أضاف: "كنا نفتقر إلى الغذاء. كنا نمضي أيامنا في الشوارع. كنا معدمين، نحيا في البؤس".
ولد في "السلام"، حيّ فقير في سلا، عام 1973. عاش في المغرب، وعند بلوغه 26 عاماً، انتقل إلى جنيف، ثم باريس عام 1998.
بعد عرض ثاني روائي طويل له بعنوان "كابو نيغرو"، في "بروكسيما" الدورة الـ58 (28 يونيو/حزيران ـ 6 يوليو/تموز 2024) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، حاورته "العربي الجديد".
(*) تدور الأحداث في منتجع كابو نيغرو، الذي يسافر إليه أغنياء مغربيون. لكنْ، هل المقبرة الجميلة، المصوّرة في لقطات عدّة، موجودة فيه؟
موجودة في تطوان، القريبة من كابو نيغرو. زرتها عام 2005، فلفتت نظري. قرّرت أنّي، عندما أنجز فيلماً، لا بُدّ أنْ أُصوّر فيها لقطات.
(*) ما الذي فتنك بها؟
التدرّج في تكوينها، وموقعها الجمالي. إنّها مرتفعة، وفيها منحدرات وأجيال عدّة من القبور، منها قديم جداً، وأخرى من الحاضر. إنّها مقبرة جبلية، فيها شيء من جمال وشاعرية لم أر مثلهما في أي مقبرة أخرى في العالم.
شيء آخر يُميّز القبور في البلدان الإسلامية: لا تشعرين بالخوف أثناء وجودك فيها. صحيحٌ أنّ هناك أمواتاً، لكنْ هناك أيضاً حياة. يوجد سلام في المكان. لذا، قرّرت تصوير جعفر، بطل الفيلم، فيها، وهو يدعو لوالده ولجدّة منير.
(*) الفيلم مصنوع بحساسية وروح شاعرية. له لغة سينمائية تعبّر عن قضية مهمة، من دون مشاهد فجّة. إنّه فيلمك الثاني، بعد 12 عاماً على "جيش الإنقاذ". كتبتَ روايات تُرجمت إلى لغات عدّة، ومؤلّفاتك مُقدَّرة في دول مختلفة. لكنْ: لماذا الغياب السينمائي هذه الأعوام كلّها؟
الغياب ليس بسببي. لدي سيناريوهان كاملان. المشكلة أنّي لا أجد تمويلاً، أو منتجاً يغامر في إخراج أفلامي. مشكلة السينما أنّها تُنجز بأموال. ما أكتبه لا يجد دعماً بسهولة، فطريقتي في الكتابة والتصوير ليست كلاسيكية. أسلوبي السردي ليس كما يتوقّعه البعض.
(*) تتّسم شخصيتا البطلين جعفر (يونس بايج) وسندس (أميمة بريد) بالرقّة. إنهما مثليّا الجنس، لكنّهما مُضطرّان إلى أنْ يبيعا جسديهما ليبقيا حيَّين، إلى درجة أنّهما يخفضان السعر إذا بيع جسداهما معاً. كلّ المشاهد التي تشير إلى الجنس خارج الكادر. تُشاهَد آثارها فقط. تعتمد الاختزال، وتكتفي بالإيحاء. هذا واضح أيضاً في "جيش الإنقاذ"، فالمشاهد الجنسية خلف الجدران، تكاد تكون هامسة.
لأنّي لا أحب تقديم كلّ شيءٍ إلى الجمهور. أُفضّل إعطاء القليل، متمنياً أنْ يُفكر الجمهور معي، ويصل بنفسه إلى كثير مما يراه على الشاشة. في رواياتي، لا أعطي كلّ شيء. لا أُريد أنْ أُبْكي المُشاهد. لكنْ، للأسف، هذه المشاريع لا تجد تمويلاً.
(*) هل جرّبت مع صناديق الدعم المختلفة؟
لديّ منتجون يُقدّمون السيناريوهات إلى صناديق دعم في مهرجانات، لكنّها تُرفَض. أعِي أنّ طريقتي في الكتابة والسرد لا تروق القائمين على هذه الصناديق.
(*) يرفضون إنتاج أفلامك، بينما يُرحّبون في الغرب بمشاريع أفلام عن المثلية والكويريين، إذْ يستخدمونها لدعم أجندتهم السياسية، أو لخلق ضجة تخدم أجندات عنصرية أو معادية للإسلام.
لأنّي لا أتكلّم عن المثلية بطريقة كلاسيكية أو غربية يريدونها. عندما يقرؤون السيناريو ولا يجدون ما يتصوّرونه، أو ما يتوقّعون رؤيته من شاب مغربي عربي مسلم، يرفضون الإنتاج. يتوقّعون أنْ يُعطيهم البكاء والنواح والعويل، كأنّ المغرب كلّه لا جمال فيه.
عكس ذلك، أسعى إلى توازن وتوافق بين القبيح والجميل، بينما المنتجون في الغرب يريدون ضرب الأم والأب والأخوات. لذا، أسأل: لماذا أضربهم؟ صحيحٌ أنّ لديّ مشكلات معهم، لكنّ هذا لا يمنع أنْ أرتقي بنفسي لأتكلّم عنهم بموضوعية. الغرب لا يستحسن هذه الطريقة. أمّا عندي، فالشغف وحب السينما لم يختفيا.
(*) البعض يقول إنّ الفيلم مُستلّ من حياتك.
في الفن، لا أستطيع استيعاب شيءٍ أو الكتابة عنه، إذا لم تكن له علاقة بالواقع، أكان واقعياً كإنسان، أو واقع أمي وأخواتي البنات. لديّ ست أخوات أكبر منّي. أراهنّ جبّارات وساحرات ومُلهمات. كنت سعيداً بينهنّ، فلماذا أهرب منهنّ أو أُنكرهن، ولا أكتب عنهن؟ لماذا لا أكتب عن أمي، التي كانت تقف على قدميها طوال اليوم لتجلب لنا ما نأكله؟ لماذا أخلق عالماً لا علاقة له بعالمي، وأترك هذا الوجود الثري الذي عشته؟
نحن عائلة فقيرة جداً. رأيتُ بعينيّ كفاح أمي وأبي من أجل لقمة العيش. لماذا لا يريدون منّي التكلّم عن هذا كلّه؟ هل أذهب إلى لندن أو فرنسا بحثاً عن إلهامٍ؟ هل أتحدّث عن البورجوازية التي أنكرتنا وضغطت علينا وجعلتنا في الوحل؟ كوني عربياً مسلماً مغربياً، يأتيني الإلهام من واقعي، الذي أجد فيه كلّ شيء. الواقع الذي عشته مليءٌ بمشكلات وقضايا وشخصيات. في الإخراج، أُحدّد "الميزانين" وفق ما تأثّرت به في واقعي وبيئتي وبيتي. أفكّر كيف كانت أمي تجلس، وكيف أخواتي يتصرّفن. أستعيد طريقتهن في البكاء والضحك والحب.
هذه الأفلام مستلهمة من حياتي. لكن أيضاً من حياة الآخرين، في عائلتي ومجتمعي.
(*) بما أنّك تكتب سيناريوهات أفلامك، هل ترسم الديكوباج بدقة قبل التصوير؟
أكتب كل شيء في السيناريو، وأرسم اللقطات. في الكتابة، أعرف جيّداً لماذا أصوّر ماذا وكيف ومن أين أتيت بها. هذا لا يعني أنّي، عند التصوير، أُصرّ على تصويرها بالضبط. لا ألتزم النص دائماً. أترك مساحة للتغيير، حتى إذا تبدلت الأمور، يُمكن التعامل معها. لدي مرونة، لأنّي أتعامل مع ممثلين وفنيّين. إذا تعاملت معهم بجبروت، لن يُعطوني من القلب. من ثم، لن يكون الفيلم صادقاً، والسينما عطاء من القلب. كلّما أعطيتهم فرصة ومرونة، تحقّق المعنى الذي أريده.
هذا سحر السينما. ما يخرج من القلب، إذا وصل إليهم، سيخرج من قلوبهم. حتّى لو حُرّفت الطريقة التي سيخرج بها. كما أنّي أحبّ أنْ يقتصر الحوار على كلمات قليلة نادرة، لكنها تُعطي معنى كبيراً.
(*) حين أتأمّل فكرة تحطيم الحب، أرى خيطاً رفيعاً بين "كابو نيغرو" وروايتك "يوم الملك"؟
الرواية عن حبّ بين شابين يبلغان 15 عاماً، أحدهما غني والآخر فقير. عن كيف أنّ الملك الحسن الثاني، في الثمانينيات الماضية، يدخل هذه القصة ويحطّم الحب، وكيف تدخل السلطة في العلاقة الحميمة وتقتلها. هذه الثيمة موجودة في "كابو نيغرو"، لأنّ عند البطلين توافقاً وتصالحاً مع نفسيهما.
المشكلة كامنةٌ في العنف المجتمعي، الذي يظهر في التعامل معهما بين حين وآخر، ليحطّمهما. مع ذلك، ردّ فعلهما إزاء التحطيم يظهر في خلق اتحاد ورابط قويين بينهما، يدعمانهما ويُعوّضانهما عمّا يفتقدانه من حب وتعاون.
مثلاً: سندس تجد كتاب ملصقات أفلام السينما المصرية، فتتفرّج عليه مع جعفر، كأنّهما يتناولان أجمل غداء في العالم. غداء روحي لا نوستالجيا فقط يعيشانها بطريقة جميلة في الحاضر. تصوير اللقطة كأنّهما يستدعيان جزءاً من مثليّتهما وروحيهما، بعيداً عن أي شعور بخجل أو عار.
هذا مهمّ جداً لي. ففي العالم، يُقال للمثليّ: "أنت لست مثلنا". كيف لا أكون مثلهم، وأنا أشاهد أفلاماً مصرية مثلهم، وأتعامل مع السينما والفنون مثلهم، وأحب الطاجين المغربي مثلهم، وأذهب إلى القبور مثلهم، وأبي مثلهم؟ كلّ شيء يبعده المجتمع عنهما، يُعيده الفيلم إليهما، ثم يعود بهما إلى قلب المجتمع.