عبده داغر... زيارة إلى المعلم

27 أكتوبر 2019
موسيقانا مستمدة من تلاوة القرآن (بورتريه لـ جنان داوود)
+ الخط -

رحل صباح اليوم الموسيقي وعازف الكمان المصري الشهير عبده داغر عن 85 عاماً. يعيد "العربي الجديد" في ما يلي، نشر مقابلة أجراها معه الزميل هيثم أبو زيد عام 2019.

 

لم يكن اللقاء مع الموسيقي وعازف الكمان المصري عبده داغر سهلاً، فالرجل، المولود في عام 1936، يتدفق بالحديث، ويفيض بالذكريات، بطريقة تحطم كل ترتيب للأفكار أو إعداد مسبق للأسئلة. يحدد هو ما يحب أن يتكلم فيه، ويحكيه بتفاصيله الصغيرة، غير عابئ بمحاولة للانتقال إلى موضوع آخر، أو مقاطعة تتدثر بدثار "المهنية" تطلب إلقاء الضوء على زاوية مغايرة. ولا يملك من يجلس أمام عم عبده إلا الإنصات لشلال الذكريات المنهمر؛ فالرجل، وبأحكام السن، وطول الرحلة الفنية، وكثرة التلاميذ، هو شيخ الموسيقيين العرب.

 

امتدت تجربته الفنية زمنياً، فتخطت سبعة عقود، وامتد أثرها جغرافياً إلى كثير من البلدان العربية والأوروبية، وامتدت إنسانياً عبر مئات التلاميذ، الذين صاروا نجوماً للموسيقى أو الغناء أو الإنشاد، وحملوا لأستاذهم مشاعر فياضة من التقدير والإعزاز.

في منطقة حدائق القبة، يعيش عبده داغر منذ أكثر من خمسين عاماً في شقة متواضعة بالطابق الأرضي. وحين أوصلنا إلى حجرة الاستقبال، شعرت أنني أعرف هذا المكان جيداً، فتفاصيل هذه الحجرة اشتهرت عبر صور عشرات الفضائيات المصرية والعربية والأجنبية، وعشرات الصحف، ومئات الموسيقيين والتلاميذ. تتوسط الحجرة منضدة صغيرة، تحمل آلة الكمان الرئيسة التي قدم بها داغر عروضه الفنية في مسارح العالم، وهي آلة نفيسة، يرجع تاريخ صنعها إلى منتصف القرن السادس عشر، وقد أهداها قسيس إيطالي إلى داغر إعجاباً بفنه.


آثار العدوان
جلس العم عبده، وأمامه الكمنجة في "غمدها"، ثم انطلق بحديث الذكريات من دون انتظار سؤال. حكاية تتلوها حكاية، وموقف يتلوه موقف، وطرفة تتبعها طرفة. لكن يمكن لمن يتأمل هذه الوقائع المختلفة والمتنوعة أن يجد الإطار الجامع الذي يضمها، وأن يرى الخط الذي يمتد على استقامته في حياة داغر، متمثلاً في الرفض والتمرد والمواجهة من دون اكتراث بالتبعات.

 فللرجل صدامات ومشاغبات ومشاكل ومشاجرات مع معظم رموزنا الفنية، ومن بينهم أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، ووزراء الثقافة ومديرو المؤسسات الثقافية. وبالطبع، كان صدامه الأول والمبكر مع والده، مدرس الموسيقى، وصاحب ورشة صناعة الآلات الموسيقية في طنطا، الذي رفض رفضاً باتاً أن يعمل ابنه عبده في المجال الموسيقي، وكانت وسيلته لهذا المنع هي الضرب الشديد المبرح كلما ضبطه متلبساً بأي حالة موسيقية، عزفاً كانت أو تعليماً أو استماعاً لأهل الفن. لكن كل عقوبات الأب الغاضب ذهبت سدى، ولم تبق منها إلا "آثار العدوان". هكذا يسميها الرجل، وهو يروي قصة تمرده الأولى.

"موسيقانا مستمدة من تلاوة القرآن والإنشاد الديني". بهذا بدأ داغر حديثه، مؤكداً أن الفن الغنائي والتلحيني كله جاء من المشايخ. أم كلثوم ابنة شيخ، وعبد الوهاب ابن شيخ، والسنباطي ابن شيخ. القرآن يحمل موسيقى ذاتية، ومن تلاوته تنبع الموسيقى العربية، وقرّاء مصر هم أهم قراء الدنيا، لم يأت ولن يأتي مثلهم.

يقول داغر: "بعد هزيمة 1967، شعرت أن التراث الفني الذي ورثناه عن محمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش سيضيع. اقترحت إنشاء فرقة الموسيقى العربية، ووصل مقترحي لأهم وزير ثقافة في تاريخ مصر، ثروت عكاشة، فأمر مدير معهد الموسيقى العربية شفيق أبو عوف بالشروع في إنشاء الفرقة، وكلفني شفيق بتكوينها، وكان يشغل عدداً من المواقع الثقافية والفنية، وله نفوذ كبير لأنه ضابط. لكني أنا صاحب الاقتراح، وأنا من نفذه، وأنا من اختار عبد الحليم نويرة قائداً للفرقة".

يضيف: "مع أول صدام مع عوف ونويرة طردوني، وفصلت من مسرح البالون. لكن الفرقة واجهت مشكلات عملية كبيرة، فاضطروا إلى إعادتي بعد 15 يوماً، بعدما هدد نويرة بأنه لن يصعد للمسرح إلا بعد عودتي. لكن المسؤولين لا يذكرون اسمي، ولا يعترفون بدوري، ويستمرون في الكذب بأن الفرقة أنشأها شفيق أبو عوف. لا يريدون أن يذكروا اسم عبده داغر".

السح الدح امبو
بسبب طول رحلته الفنية التي بدأت أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، يملك داغر سجلاً حافلاً من الوقائع والذكريات، أكثرها يأخذ شكل الصدام والمواجهة. اختلف مع أم كلثوم بسبب الأجر، وترك فرقتها التي يتمنى العمل ضمنها كل عازف محترف. واختلف مع عبد الحليم حافظ، وترك فرقته بسبب تغيير ترتيب مقاعد العازفين. وغضب من فايزة أحمد بسبب كثرة إعاداتها لمقاطع الأغنية، وتركها وهي تغني على المسرح في حفل رسمي، ونهرها قائلاً: "إحنا مش في كُتّاب". وانتهت علاقته بعمار الشريعي بصدام ثم قطيعة.

يوضحه داغر قائلاً: "علمته عزف العود والأكورديون، وكان يبيت هنا على أرض هذه الحجرة، ولم يذكر يوماً أنني أستاذه، وعلَّمت آمال ماهر، فلما غنت أمام حسني مبارك واشتهرت أخذها من عندي، ولما ذكرت هي في حديث صحافي أنني أستاذها غضب منها عمار، وأمرها ألا تذكر اسمي مرة أخرى". يرى داغر أن كثيرين ممن علمهم أو اكتشفهم أو كان سبباً في نجاحهم وشهرتهم قد تنكروا له، وجحدوا دوره الكبير معهم.

أما صدامه مع المطرب الشعبي الشهير محمد رشدي، فقد واجهه داغر بإخراج مطرب جديد "ينيم رشدي من المغرب"، ولم يكن هذا المطرب إلا أحمد عدوية، الذي كان يعمل "شيالاً" عند الفنانين، يحمل آلاتهم، وينقلها لهم، وكانت لديه رغبة كبيرة في الغناء، ألحّ بها كثيرا: "عايز أغني يا عم عبده". فلما بدأ رشدي التعامل مع بليغ حمدي، ولمع اسمه، تنكر لداغر، فكان الانتقام بإخراج عدوية إلى الجماهير عبر "أسطوانة شعبي" مدوية، وغنت شوارع مصر وحواريها: "السح الدح امبو".

يقول داغر إنه تلقف المطلع من بائع "عصافير مقلية" في شارع "كلوت بك"، وأعطاه لـ"الريس بيرة" مؤلف الأغاني الشعبية ليكمل الكلمات، مقابل 50 قرشاً، ثم دفع بالكلمات إلى الشيخ طه، عازف الأكورديون، ليلحنها. هكذا، انتقم داغر من رشدي.


بيت مفتوح منذ 1963
لكن الأيام ادخرت صداماً عنيفا بين داغر والدكتورة رتيبة الحفني، التي ترأست معهد الموسيقى العربية، واستقدمت المايسترو يسري قطر لقيادة فرقة الموسيقى العربية، بعد رحيل عبد الحليم نويرة منتصف الثمانينيات، رغم علمها بالعداء القديم بين قطر وداغر.

تفاقمت المشاكل، وشعر العم عبده أن جهوداً كبيرة تبذل لاستبعاده، وإقصائه تماماً عن الفرقة التي اقترح فكرتها، وكان له الفضل الأكبر في إنشائها. لكنّ غضبة داغر هذه المرة كانت ضد الوسط الموسيقي كله، وربما ضد الفن الموسيقي ذاته.

قرر داغر ترك الموسيقى، والعزف في الفرق أو مع المطربين، وفتح ورشة لتصنيع آلة العود بالقرب من بيته. وانعكست درايته العملية بالموسيقى على الآلات التي يصنعها، فحقق نجاحاً كبيراً، وزاد الطلب من الدول العربية على أعواده. امتد زمن هذا الاعتزال الاحتجاجي 14 عاماً، قبل أن ينجح تلاميذه في إقناعه بالعودة إلى التأليف والعزف وتقديم العروض المسرحية. لكن هذه المرة خارج مصر. على مسارح ألمانيا وسويسرا والنمسا وهولندا وإسبانيا وفرنسا.

تتسم حياة داغر بعشوائية شديدة، لا يعرف التخطيط ولا التنظيم، يترك نفسه للمصادفات والمقادير. شخصيته الصدامية حرمته الاستقرار، فتقلبت به الأيام من العزف في الموالد ومع العوالم والمطربين والمنشدين والمنشدات، وكبار أهل الفن، وصولاً إلى فرقة أم كلثوم. لكن نستطيع الجزم بأن "التعليم" كان الثابت الوحيد في حياة الرجل. فداغر مُعلم، لم يتوقف عن عطائه التعليمي في أحلك الظروف، منذ أن فتح بيته لتلاميذه عام 1963 وحتى هذه اللحظة.




بيت الكمان
لم يتلق داغر أي قدر من التعليم، لكنه صار "المعلم الأول". لا قدرة له نهائياً على التنظير، أو حتى شرح منهاجه التعليمي، ولا يقرأ النوتة الموسيقية. فقط يقول لمن يرغب: "هات آلتك وتعال.. اجلس أمامي، وخذ عني". يؤمن داغر بأن التعليم الموسيقي يماثل العلم الشرعي، تلميذ يتلقى عن شيخ، وعلاقته بتلاميذه تتخذ طابعاً صوفياً: "شيخ ومريد".

يقول تلاميذه إنه "يخترع" تمريناً يتسم بالصعوبة والتعقيد، ثم يدرب نفسه عليه، عبر مراحل متدرجة. هكذا كون نفسه عبر عقود، ثم عاش حياته لينقل خبرته إلى المريدين، من عازفي العود أو الكمان أو القانون أو الناي أو الأكورديون، وغيرها من الآلات الموسيقية، وكذلك إلى المطربين، وقراء القرآن، والمنشدين.. 56 عاماً من نقل الخبرات إلى مئات التلاميذ، مجاناً، من دون أي مقابل مادي. يوضح: "لم أتلق أجراً من المصريين أبداً". يضيف: "باخد فلوس كويسة من الأوروبيين أو الأمريكان أو اليابانيين.. لكن المصريين لا".

ما زرعه داغر عبر عقود، أثمر وأينع؛ عشرات من محترفي العزف والغناء، قادة للأوركسترا في كثير من البلدان العربية، أكاديميين في جامعات غربية. كلهم يدين للرجل بالتعلم والإرشاد والتوجيه. وأيضاً كان هؤلاء سبباً للشهرة الواسعة التي نالها الرجل في العقدين الأخيرين. عرفوا به في معاقل فنية أوروبية، وكان الاهتمام الغربي به سبباً للاهتمام المحلي. انتبه أهل الفن في مصر إلى أن بينهم فناناً بقيمة عبده داغر، فأقبلت عليه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ودعي للمشاركة في مهرجانات الموسيقى العربية، واتسعت قاعدة المعجبين بفنه والمقبلين على عروضه.

ومنذ ثلاث سنوات فقط، أراد بعض المتنفذين استدراك ما فات، فمنحوا الرجل قاعة في معهد الموسيقى العربية، تحت عنوان "بيت الكمان الشرقي"، ليعلم أجيالاً جديدة فنون العزف. عاد الرجل إلى المعهد مكرماً، من دون أن ينسى أنه خرج منه مرتين مطروداً، أو شبه مطرود.


بلا تكريم
لا يراعي عبده داغر في حديثه أي اعتبارات، ولا يشغل باله بمآلات كلامه. يعلن رأيه في نجوم الفن بسخرية لاذعة. يتبسط تماما في مجالسه، يقر بأن شرب الحشيش لازمه طوال حياته: "كل تماريني بعملها وأنا شارب حشيش.. أشرب وقت ما أحب، وأمام أي كان.. في حفل افتتاح مكتبة الإسكندرية شربت حشيش في وجود حسني ومبارك وفاروق حسني".

كما لا يخفي داغر آراءه السياسية، ولا نقده الشديد للسلطة في مصر منذ ثورة يوليو/ تموز عام 1952. ينتقد أنظمة الحكم المتعاقبة، من عبد الناصر إلى السيسي.. يرى أن "البلد ضاعت"، وفنياً يضرب مثالاً بالموسيقات العسكرية، وكيف كانت الفرق العسكرية المصرية متفوقة جداً، ومدربة على أعلى مستوى، ثم يقارنها بما آلت إليه من ضعف وتراجع، يصل أحياناً إلى حد "النشاز" أثناء عزف السلام الوطني لبعض الدول الأجنبية، بل وصلت الأخطاء - برأيه - إلى عزف السلام الجمهوري المصري.

حديث داغر عن السلطة والإدارة السياسية شجعني لأقاطعه سائلاً: هل كرمتك الدولة يا عم عبده؟ فأجاب ضاحكاً: "نهائياً، لم يكرموني، ولا أريد منهم أن يكرموني، ولن أقبل منهم أي تكريم، لقد تجاهلوني إلى أن وصلت إلى هذه السن؛ 83 عاماً. لا أقبل التكريم من هؤلاء. أنا كرمت من مؤسسات وأكاديميات غربية متعددة. ورفضت عروضاً مغرية بشيكات مفتوحة أضع فيها المبلغ الذي أريده. لكن قلت لا، سأبقى في مصر لأعلم الأجيال الجديدة موسيقانا المصرية، المستمدة من القرآن والمشايخ. خيري شلبي كتب قصة حياتي في روايته (صهاريج اللؤلؤ).. يكفي هذا".

قبل الانصراف، وقفت أتأمل الصور وشهادات التقدير وبعض الدروع التي نالها داغر من مختلف الدول العربية والأوروبية. لفت انتباهي درع مكعب كبير، صنع من الكريستال النقي، حملته فوجدت وزنه ثقيلاً جداً.. بادرني العم عبده: "ده من تونس.. منحته لي وزارة الثقافة التونسية". أعدت الدرع النفيس إلى مكانه، ووجدت بجانبه درعاً رديئاً أشبه بقطعة البلاستيك. لكن داغر لم يتأخر في الشرح، فقال بصوت عال يتفجر بالسخرية المُرة: "ده بقى من مصر.. آه.. من مصر.. بيتباع بـ2 جنيه في الموسكي".

المساهمون