ترتبط عوالم السياسة والأمن في إسرائيل بعالمي العسكر والسايبر من خلال علاقة تبادلية، تعكسها حركة انتقال القيادات المؤثرة فيها من قطاع إلى آخر. وبمراقبة لحركة التبادل هذه، يتبيّن أن عدداً من نخب الحكم وفدت إلى عالم السياسة بعدما كانت تتبوأ مواقع رائدة في عالمي العسكرية والسايبر؛ كما أن عدداً من كبار الساسة يختارون الانتقال إلى قطاع السايبر بعد إنهاء حياتهم السياسية أو تجميدها لوقت محدد. وقبل الخوض في استعراض الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة التي قلما تتكرر في كيان سياسي آخر في العالم، أدناه أمثلة تدلّ على اتساعها داخل إسرائيل.
نفتالي بينت
يعد رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينت مثالاً كلاسيكياً يعكس اتجاه حركة القيادات من عالم العسكرية إلى السايبر ثم إلى السياسة، والعودة مجدداً إلى السايبر. فعندما أنهى بينت خدمته العسكرية عام 1996 كقائد في وحدة الصفوة (سييرت متكال)، التي تعد أهم الوحدات الخاصة في جيش الاحتلال، والمتخصصة في تنفيذ عمليات استخبارية خلف "خطوط العدو"، اتجه إلى تدشين شركة السايبر "سيوتا" Cyota، التي تخصصت في تطوير خوارزميات للتحقق من الهوية، حيث عمل مديراً عاماً للشركة التي كانت مسجلة في الولايات المتحدة، وكان لها مقر في نيويورك ومقر في مدينة هرتسليا، شمال تل أبيب.
وباع بينت الشركة في 2005 بـ145 مليون دولار لشركة RSA المتخصصة في أمن المعلومات، وظل يعمل فيها مسؤولاً عن شعبة التطوير حتى عام 2006. وبعد ذلك عمل مستشاراً لعدد من شركات السايبر والتقنيات المتقدمة الإسرائيلية والأميركية. في عام 2006 عين بينت مديراً عاماً لشركة السايبر "سولتو"، وهي شركة برمجيات إسرائيلية تخصصت في تحديد أنماط الخلل الذي يصيب مايكروسوفت ويندوز ومعالجتها. فضلاً عن ذلك، فقد استثمر أموالاً في عدد من شركات السايبر في إسرائيل والولايات المتحدة. وقدرت مجلة "فوربس" رأسمال بينت بـ100 مليون دولار. وقد انتقل في عام 2012 إلى عالم السياسة تحت مظلة التيار الديني القومي المتشدد، وانضم إلى حزب "البيت اليهودي"، الذي يمثل هذا التيار، ليصبح في ما بعد رئيساً للحزب، ووزيراً للاقتصاد وشؤون القدس. ثمّ تدرج في المناصب السياسية، فشغل منصب وزير التعليم، ووزير الأمن، ثم أصبح في يونيو/ حزيران 2021 رئيساً للوزراء. بعد استقالته من منصبه الرفيع، عاد بينت إلى عالم السايبر، حيث يعمل حالياً عضواً في مجلس إدارة شركة Quantum Source، المتخصصة في "التكنولوجيا الكمية".
إيهود باراك
أما إيهود باراك، فقد انتقل من عالم العسكرية إلى السياسة ومن ثم إلى السايبر. فبعدما سُرّح باراك من رئاسة أركان الجيش عام 1995، انضم إلى عام السياسة كوزير للداخلية في حكومة إسحاق رابين ثم وزيراً للخارجية، وفي عام 1999 انتخب رئيساً للوزراء. وبعد خسارته الانتخابات عام 2001، انتقل إلى عالم السايبر، وعمل في عدة شركات، بينها شركة EDS، المتخصصة. في عام 2004 عاد باراك إلى عالم السياسة كرئيس لحزب العمل، وبعد ذلك كوزير في الحكومات التي تعاقبت على حكم إسرائيل في هذه الفترة، حيث شغل بشكل خاص منصب وزير الأمن. وفي عام 2013 أنهى حياته السياسية. وعام 2022 عاد إلى عالم الأعمال كمدير لشركة "شاحال طال رفوآ"، وهي شركة تقدم خدمات طبية عن بعد تعتمد في عملها على برمجيات سيبرانية.
بني غانتس
ومن الأمثلة على الانتقال من عالم العسكرية إلى السايبر ثم السياسة وزير الأمن السابق بني غانتس، الذي سرّح من الجيش في 2015 كرئيس هيئة أركان، ثم انتقل إلى عام السايبر، حيث أصبح في 2017 عضو مجلس إدارة شركة "الرون"، إحدى أكبر شركات التقنيات الفائقة والسايبر في إسرائيل، ثم مديراً عاماً لشركة "هميماد هحميشي"، وهي شركة سايبر متخصصة في تطوير منظومات الذكاء الصناعي وتوظيفها في المجالين العسكري والاستخباري. وفي عام 2018، انضم إلى عالم السياسة، حيث ترأس حزب "كحول لفان"، وبعد خوضه انتخابات 2020 أصبح وزيرا للأمن في حكومة بنيامين نتنياهو.
نير بركات وآخرون
لكن يبقى وزير الاقتصاد الحالي الليكودي نير بركات أكثر الساسة الإسرائيليين ارتباطاً بعالم السايبر. فبعدما سرّح من الجيش دشن عام 1988 أول شركة سايبر إسرائيلية أطلق عليها اسم BRM، وقد تخصصت في إنتاج البرمجيات المضادة للفيروسات. ووظف بركات عوائد الشركة المالية في الاستثمار في المزيد من شركات السايبر، حيث قدرت الأرباح التي جنتها الشركة بمئات ملايين الدولارات. وقدرت مجلة "فوربس" رأسمال بركات في 2021 بمليار ونصف مليار دولار.
في 2008 انتقل بركات إلى عالم السياسة، حيث انتخب رئيساً لبلدية الاحتلال في القدس، وبعد ذلك انضم لحزب الليكود الحاكم، حيث يشغل حالياً منصب وزير الاقتصاد في حكومة نتنياهو. وما ينطبق على كل من بينت وباراك وغانتس وبركات، ينطبق على العديد من الساسة الذين قدموا من عالم السايبر أو غادروا إليه.
من العسكر إلى السايبر
من ناحية ثانية، فإن الحالات التي تنتقل فيها النخب العسكرية إلى عالم السايبر من دون المرور بعالم السياسة هي الأكثر والأعم، وليس بالإمكان حصرها بسبب تجذرها واتساعها. فعلى سبيل المثال، معظم قادة ورؤساء الشعب في جهاز الموساد وجهاز الشاباك وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) يتجهون إلى العمل في مجال السايبر بعد تسريحهم من الخدمة.
ومن الأمثلة الكثيرة على هذه الحالات، مبادرة رئيس "الشاباك" السابق يوفال ديسكين، بعد تسريحه من الخدمة في 2010 بالتعاون مع ضباط سابقين في الجهاز في تدشين شركة "سيموتوف تكنولوجيا"، وهي شركة متخصصة في إنتاج برمجيات سيبرانية لصالح السيارات الكهربائية. وفي عام 2013 دشن دفيد ميدان، الذي قاد عددا من الشعب في جهاز الموساد، شركة "ميداني تكنولوجي" المتخصصة في إنتاج تقنيات سيبرانية عسكرية، حيث وقعت الشركة عدداً من العقود مع دول خليجية، كما ذكرت صحيفة "كلكليست" في حينه.
ويتضح مما تقدم أن الخلفية العسكرية والاستخبارية مطلب رئيسي لهوية النخب التي تقدم على تدشين شركات السايبر في إسرائيل. ويتسم كبار الضباط الذين سُرّحوا من الخدمة في الجيش والمؤسسة الاستخبارية بسمتين تؤهلهما للانخراط في عالم السايبر: السمة الأولى هي خوضهم تجارب مهنية في مجال السايبر أثناء الخدمة العسكرية تؤهلهم للانخراط في هذا العالم بعد التقاعد. والسمة الثانية هي التّماس المباشر مع المشاكل العسكرية خلال خدمتهم التي تتطلب حلولاً تنقية سيبرانية.
فعلى سبيل المثال، لعبت تجربة بينت كضابط كبير في وحدة "سييرت متكال" الاستخبارية دوراً مهماً في تحسين قدرته على تدشين شركات السايبر المختلفة التي ترأس إدارتها أو عمل فيها، لأنه كان على اتصال مباشر ببرمجيات محددة ومتطورة خلال خدمته العسكرية، فضلاً عن أنه تعرف إلى معضلات عدة تحتاج إلى حلول تقنية، ما جعله يكرس بعض تخصصات شركاته في مجال وضع هذه الحلول.