لماذا توجد الجبال في شمال الولاية؟ لتنزل الثلوج، ثم تذوب، وتنحدر المياه إلى الجنوب، حيث خَزّانات المدينة.
هذا سؤال وتعليل يُذكّران بحوارات "كانديد" (1759)، رواية فولتير، المشبعة بالتفاؤل المفرط والساذج، في خير العوالم كلّها.
كما في "ضوضاء بيضاء" (White Noise، إنتاج 2022، "نتفليكس") لنواه باومباك: أسرة سعيدة في السوبر ماركت، تفرط في استهلاك كلّ شيءٍ، وتتجادل حول تأثير المواد الكيميائية في الطعام والهواء، والدواء وجرعاته وأضراره الجانبية على المعدة والذاكرة. في زمن شعار "الصحّة كلّ شيء"، هذا الجدل أكثر إزعاجاً للفرد من زوال طبقة الأوزون.
هذا أسلوب الحياة الكاليفورنية، حيث كلّ شيءٍ متوفر، إلى حدّ الملل. هذه وضعية بدئية في خير العوالم كلّها: كاليفورنيا. ثم وقع حدثٌ مُشوّش، فاضطرّت الأسرة إلى مغادرة منزلها الملكي. الكارثة في كاليفورنيا انقطاع الكهرباء 5 ساعات، في فيلا مُجهّزة بثلاّجات مليئة بالطعام.
نتابع كوميديا الأميركي لاجئاً مؤقّتاً في مخيم مُجهّز، يسكنه لاجئون مهووسون بالتنويم المغناطيسي، ومسحوق الصوديوم في الدواء والطعام والهواء. في المخيم، تحت المطر، تدرك الأسرة نعمة العيش بمللٍ في الفيلا. وقع حدثٌ سَامّ وعابر، زرع شكوكاً عميقة جعلت الانسان في مواجهة ذاته. مات شخص سليم فجأة. هكذا انبعث قلق الفرد من أنْ يموت قريباً. أنتَ، ما الذي يضمن لكَ ألا تموت بعد 5 دقائق؟ لا شيء.
كيف يمكن للفردِ أن يتعايش مع هذا التهديد الوجودي؟ يجري فحوصات طبية، فيجد أنّ لديه بوتاسيوم زائدا. ما معنى ذلك؟ لا جواب. إذاً، لا بدّ من فحوصات إضافية، بآلات جديدة، لإبعاد الموت. ينزل الفرد 9 درجات في الجحيم. حين يضطرب، يوبّخ راهبة ملحدة، لأنْ لا بُدّ من الجنة، ليكون للموت معنى. يُفكّر في الجنة، حتى يُداهمه الموت. للتخلّص من القلق، يهرب إلى السوبرماركت، للتسوّق. السوبرماركت قطعة من الجنة.
هكذا صوّر باومباك الانشغالات اليومية للمجتمع الاستهلاكي، بعد تصويره العلاقة الزوجية المثالية، التي لا تستطيع الاستمرار بسبب التنافس المهني بين الزوجين (مخرج وممثلة)، في "قصة زواج" (2019، تمثيل سكارليت جوهانسن وآدام درايفر). في "ضوضاء بيضاء"، صوّر الروتين اليومي، في فيلمٍ غلب فيه المحتوى على الأسلوب البسيط. البساطة هنا لا تعني السهولة. الفيلم كوميديا كيميائية، تعْرض مقطعاً مُصوّراً عن الحياة اليومية المرفّهة للطبقة الوسطى الأميركية. يتناول الأب (آدام درايفر) حبوب ضغط الدم، وحبوب التوتّر، وحبوب الحساسية. تتناول الأم (غريتا غرويغ) دواءً يُعدّل الذاكرة، وتحمل ابنتهما (رافّاي كاسيدي) مُعجماً طبّياً لتعرف مواد تصنيع تلك الأدوية، ومفعولها، وأضرارها الجانبية. هذا اليوميّ العادي، الذي يغرق فيه البشر، ليس أسطورة، ولا فعلاً خارقاً، بل سلوكاً يومياً تافهاً، مشبعاً بالتفاصيل التي تكشف طبيعة البشر.
تنبع عناصر الإضحاك من هذه التفاصيل. في كوميديا تستثمر "نظرية المفاجأة، الإضحاك بجزئيات تتوالى من دون أنْ يتوقّع المتلقّي ما سيُقال أو يحصل" (ملفن هيلترز، "أسرار كتابة الكوميديا"، ص 36). التقط باومباك هذه الجزئيات بفضل مُراقبة عميقة للحياة اليومية المعاصرة، ليكشف هواجس مرَضية مُبالغٌ فيها، في حوارات موجزة ساخرة. يشاهد الأب، الأستاذ الجامعي، سقوط طائرة. في نومه، يرى تخيّلات. يشعر كأنّه يهوي في العدم. هكذا يرصد الفيلم تأثير المصائب التي تبثّها وسائل الإعلام في الحياة الفردية.
كوميديا كيميائية، تُكثّف وسائل الإعلام مفعولها. يستمع الأب إلى مجادلات أطفاله. إنّه أب ديموقراطي، لكنّ تخصّصه في التاريخ يقول شيئاً مختلفاً. يعمّق تخصّصه هواجسه الكيميائية. كيف يبدو العالم في المنام لمن يشاهد الكوارث على شاشته، ثم يتناول عقاقير الأرق؟
تصير المشاكل التي تعيشها الأسرة كوارث. يتجادل الأطفال حول تعريف الكلب والجُرذ. يكاد النقاش يتحوّل إلى مواجهة. كلّ فردٍ يُعلّق على آخر صورة شاهدها على هاتفه، وبالتالي يستحيل توحيد موضوع النقاش. على الفرد تحمّل سَماع الغباء، من دون القدرة على إيقافه. يكفي أنْ ينتظر الفرد دوره، ليبثّ غباءه. أفرادٌ يتبادلون تعاليق تنمّر، كتلك الطافية في "فيسبوك". تُبرز ردود الأفعال صعوبات التعايش مع تعاليق الآخرين.
لإغناء نقاشات يومية كهذه، تبثّ وسائل الإعلام معلومات كيميائية كثيرة، عن الهواء والطعام والأدوية. هذا يزيد قلق الأفراد من أنْ يموتوا متسمّمين. تزعم المراهِقة أنّ أمها تفقد الذاكرة لأسباب كيميائية. تبحث عن الأدوية التي تتناولها، لتجد دليلاً علمياً. تعلّق على الأم. يكشف اللسان المسموم عدوانية الآخر، حتى لو كان زوجة أو طفلاً. يجهد الأب في تخفيف التوتّرات والمعارك. كلّ جواب يقوله، يصير مشكلة. مع مراهقٍ يحفظ العناوين الرنّانة في وسائل الإعلام، عن تغيّر الأوضاع، وريح تهبّ من كندا حاملةً غازات. تتحسّن الأوضاع بسرعة، في "أحسن العوالم كلّها". في أغنى مدينة في العالم. هنا يكمن عنصر الحلّ: تتمكّن دولة الرفاهية الحنون من القضاء على الخطر.
يتوهّم أستاذ التاريخ أنّه يعرف كلّ ما جرى. إذاً، سيعرف كلّ ما سيجري. لذا، هو ليس مرعوباً. لديه ثقة عمياء في الدولة المُنقذة، وفي قدرة الحكومة على حَلّ كلّ المشكلات. يكفي الانتظار. للتخلّص من الانتظار، يتمّ الهروب إلى السوبرماركت، التي تبدو أرحب بعد الأزمة والنجاة. هنا، تستعيد الطبقة الوسطى الأمل، وتنسى الضجر والملل والموت، وتستهلك ما لذّ وطاب. بعد الشبع التام، يحلّل أفراد الأسرة الآثار الجانبية لسموم السكّر والشوكولاته على الوزن.
هذا هو البؤس لدى الطبقة الوسطى الأميركية، التي تقلّدها طبقات اجتماعية، في دول المعمورة، في التسوّق وحجم الثلاّجة والسيارة.