ضوابط أخلاقية لسينما المغرب؟ سؤال شاسع فلكلّ مخرج أسلوبه

18 اغسطس 2023
ديفيد لينش: تصرّف مع الآخرين كما تحبّ أنْ يتصرّفوا معك (هكتور ماتا/فرانس برس)
+ الخط -

 

"حركة الترافلينغ مسألةٌ أخلاقية". هكذا تُلخّص الجملة الشهيرة لجان ـ لوك غودار تلازم السينما وسؤال الأخلاقيات، باعتبار الأخلاقيات مجالاً لتقييم ممارسات الإنسان وأفكاره، لا منظومة قواعد وتصرّفات، ينبغي التزامها. أيّ أنّ الأخلاقيات، عكس الأخلاق، لا تستجيب لقوانين متعالية، بل لمبادئ وقِيَم تصنعها محايثة الإنسان لذاته، وسعيه المستمرّ إلى الفضيلة.

سؤال الأخلاقيات شاسعٌ، ولكلّ مبدع طريقته في طرحه وتمثّله. ديفيد لينش، مثلاً، لا يفتأ يُذكّر ـ بنزوعه المعتاد إلى البساطة في الحديث، عكس التجريد السائد في أفلامه ـ أنّه يلتزم القاعدة الأساسية التي تقول: "تصرّف مع الآخرين كما تحبّ أنْ يتصرّفوا معك". أما جان رونوار، فيخلط أوراق الأخلاقية حين يستدعي فكرة النسبية في الحكم على تصرّفات الآخرين، بالجملة المعروفة التي ينطقها على لسان أوكتاف في "قواعد اللّعبة" (1939): "المريع على هذه الأرض أنّ لكلٍّ أسبابه"، التي يعتبرها كثيرون من أهمّ مفاتيح دخول السينما عصر الحداثة. ولجاك ريفيت جملة، كتبها في مقالةٍ نقدية عن "كابو" (1961) لجيلّو بونتيكورفو: "لو تذكرون في "كابو" مشهد انتحار ريفا، حين ترمي نفسها على الأسلاك الشائكة المكهربة: الإنسان الذي يُقرّر، في تلك اللحظة، أنْ يقوم بحركة ترافلينغ إلى الأمام ليؤطّر جثّتها من زاوية منخفضة، مع الحرص على أنْ يضع يدها المرفوعة في ركن الإطار النهائي، هذا الإنسان لا يستحقّ سوى احتقار عميق". هذه الجملة تبقى أبرز مجسّد لمسؤولية المخرج ليس فقط إزاء ما يُصوّره، بل، ربما خاصّة، كيف يُصوّره.

في العقدين الأخيرين، خرج نقاش مسألة الأخلاقيات من مضمون الفيلم وشكله إلى السينما كممارسة، منذ عملية التصوير والعلاقة الجامعة بين المراكز التي لها نفوذ مهني وفنّي (المخرج والمنتج خاصة) والممثّلات، وإلى الحياة الخاصة للسينمائيين وعلاقاتهم بأزواجهم وأبنائهم. في المغرب، هناك نقاش أخلاقي يتنامى في السنوات الأخيرة، بعضه وعظيّ الطابع، يتناول السينما من منظور قاصر، بالتركيز على مَشاهد العري والجنس ولازمة "خدْش الحياء العام"، بلغ أوجه أثناء منع "الزّين لي فيك" (2015) لنبيل عيوش، قبل عرضه في المغرب، بناء على مَشاهد مسرّبة إبّان عرضه في مهرجان "كانّ". كما أثارت شهادات ممثلات عن تعرّضهن للتحرش من مخرجين وممثلين ضجة تجاوزت، في الأشهر الأخيرة، الأوساط السينمائية إلى التداول العام.

لكنّ السؤال الأخلاقي لا يتوقّف هنا، إذْ ينبغي أنْ يمتدّ إلى ممارسات تطبع السينما المغربية، منذ سنّ قوانينها إلى تتويج الأفلام في المهرجانات، مروراً بمنظومة دعم الأفلام وتوزيعها. جهدٌ كبيرٌ بُذل، ومدادٌ كثيرٌ أسيل، في فترة معيّنة، كجدل بيزنطي: "هل تعيش السينما أزمة سيناريو أم أزمة مخيال؟". بينما الإشكالية الأساسية، التي تظلّ خارج الحقل، كفيلٍ كبيرٍ يقبع في الغرفة ويتظاهر الجميع أنّهم لا يرونه، أنّنا نضع العربة أمام الحصان، بينما نناقش "الجماليّ" (الأستطيقا) قبل أنْ نحسم في "الأخلاقيّ" (الإتيقا).

(*) هل يمكن أنْ يُنجز مخرجٌ سينما، يسعى بدأبٍ، أكثر ربما ممّا ينشغل بأسئلة الإبداع نفسها، وعلى مرأى من الجميع، إلى مراودة لجان تحكيم المهرجانات عن نفسها، بإغراءات المال والمصالح المتبادلة، ليحصل على جائزة لا يستحقّها فيلمه؟

(*) أيّ خدمةٍ يسديها ناقدٌ للسينما حين يقول رأيه في الأفلام بناءً على منافع ذاتية، تجمعه بمنتجيها أو مخرجيها؟

(*) ماذا ننتظر من منظّم مهرجان، لا يتحلّى بأي سينيفيلية أو رؤية فنية، لتنظيم تظاهرة سينمائية، فيُهمل جوانب أساسية، كجودة العروض، ونوعية الأفلام المبرمجة، ليهتم فقط بالبهرجة والسياحة المجانية؟

(*) هل يمكن إطلاق صفة "منتج" على وسيطٍ لصرف الأموال، لا يتملّكه أي طموح فني لإنجاز فيلمٍ جيّد، ووحده وازع الربح الجشع والسريع يحرّكه؟

(*) كيف تتقدّم السينما إذا كانت أهداف الحفاظ على المصالح المهنية الضيقة والفئوية، وقطع الطريق على القادمين الجدد، تُحرّك النقاش حول "قانون تنظيم الصناعة السينمائية"، بدل البحث عن التوافق العمودي الذي يخدم مصلحة القطاع برمّته، ويمنح حرية أكبر للإبداع وتفتّق مواهب جديدة؟

 

 

لا تزال حاضرة في الأذهان ممارسات غير نزيهة، شابت تعيين وعمل لجنتي تحكيم الأفلام التخييلية والوثائقية، في الدورة الـ22 (16 ـ 24 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، وأفضت إلى تقاطبات غير مشرّفة في الأولى (تعيين)، وذهاب جوائز إلى أفلام لم تكن تستحقّ التواجد في المسابقة أصلاً، ما دفع ظرفاء إلى التعليق على تتويج أفلام مغربية بجوائز مهمّة بـ"حمد الله" على أنّ معيارَ الاستحقاق (إلى حدّ كبير) الحكمُ بين الأفلام هناك، وإلّا لما بقي أمام المخرجين الشباب أي منفذ للحصول على جوائز، في ظلّ المحسوبية والزبونية السائدتين.

لحسن الحظ، هناك عدالة، أو "كارما"، يحقّقها مستطيل الضوء الذي يعكس كلّ شيء، بمنتهى الصدق والشفافية، على الشاشة البيضاء. لو وجدوا سبيلاً إلى أنْ يغشّوه أو يراودوه عن نفسه، بدوره، لما تردّدوا في ذلك. فبعض السينمائيين يتعاملون مع الضمير الأخلاقي كأنّه خاصية يمكنهم إبطالها وتفعيلها متى أرادوا. الحقيقة، أنّ الضمير الذي يحكم اختياراتهم الجمالية في الأفلام امتدادٌ لذلك الذي يقف وراء اختياراتهم الأخلاقية. النتيجة أنّ من مات في داخله الوازع الأخلاقي لا يمكن أنْ يأتي بالجمال في أفلامه.

حتى إشعار آخر، السينما ـ على منوال شعار مسلسل X-files: "الحقيقة في مكان آخر" ـ تقع في مكان آخر غير حسابات الدعم وأشطره، والبطاقات المهنية، وجوائز المهرجانات نفسها. أما الخلاص فيكمن، مرة أخرى، في الاستثمار في الشغف بالسينيفيليا. وحده هذا الأخير يقي السينمائيين لعنة الركض وراء بريق المال وأضواء الشهرة الخادعة، بجعلهم يقعون في حبّ السينما كممارسة فنية نبيلة، قبل كلّ شيءٍ آخر.

المساهمون