صور غزة... الكارثة تختار من يوثّقها

17 فبراير 2024
في رفح (سعيد الخطيب/ فرانس برس)
+ الخط -

منذ بداية عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة بدأت الصحف والقنوات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي ببث وابل من الصور التي تخرج من القطاع. صور تعبّر عن الكارثة: أيدٍ مبتورة، ووجوه ممسوحة، وأجساد محطّمة، وصراخ ودماء في كل مكان على الشاشات وصفحات الناشطين والإعلاميين. بدأت صفحات الأشخاص العاديين تتحول إلى منصات تبث الصور والكوارث بثاً حياً ومباشراً. منهم من كان على صلة بالإعلام وصناعة المحتوى، ومنهم من لم تكن لديه أي خبرة تذكر. لكن الحدث اختار الكاميرا التي ستوثقه. الصدفة اختارت من يوثقها. وبناء على ذلك، يكمن التساؤل: ما هو تأثير هذا على المتلقي؟ ولماذا بدأ التفاعل مع هذه الصور والمشاهد بالتغيّر منذ بداية العدوان وحتى هذه اللحظة؟
في صناعة الإعلام، هناك مرسِل للمادة الإعلامية وهناك متلقٍّ لها. وفي المنتصف، هناك الأداة التي عن طريقها تصل هذه المادة. وفي قراءة الأحداث، نجد هذه المنصات الفردية التي لا تتضمن في سلوكها مراعاة للغة أو المادة المنشورة، إلى جانب وجود التعبير العاطفي المباشر داخل هذه المواد، ما جعل هذه المواد تمثل تهديداً حقيقياً للجمهور الذي يتابع الأحداث أو يُعتبر جزءاً منها. حالات الفقد التي تُنشر مباشرة ليتلقاها المتابعون من دون أي تدقيق أو متابعة، والمشاهد الحية المنتشرة في كل مكان؛ جميعها تساهم في صناعة الصدمة الجماعية، التي تؤثر في سيكولوجيا الجمهور ووعيه.
اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) هو حالة مرضية عقلية تحدث عند تعرض الشخص إلى حدث صادم.  يصاب الشخص بهذا الاضطراب نتيجة لأحداث مختلفة، وقد تصيب أحداثٌ معينة أشخاصاً بالصدمة، في حين لا تصيب آخرين.
نتساءل: هل من الممكن أن يكون الإعلام في مواجهة مع جمهور يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة؟ وهل هذا هو ما يتسبب بتغيّر رد فعل الأشخاص على الأحداث الجارية الآن في قطاع غزة؟
في الساعات الأولى من السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلية جريمة حية ومباشرة؛ إذ استهدفت بغارة جوية مستشفى المعمداني، أو كما يعرف بالمستشفى العربي الأهلي. راح ضحية هذه المجزرة نحو 500 شخص. أصابت هذه المجزرة العالم بالذعر. بدأت الصحف ببث الحدث في كل مكان موثقةً إياه، وتحدّث الناجون للصحف. بدأ الصحافيون والمؤثرون بنقل الكارثة. والحقيقة أن هذه الحادثة كانت عميقة التأثير في المجتمع الفلسطيني والعربي والعالمي. صارت كلمات الناجين تتردد في كل المنصات.
"المستشفى تعرض إلى هجوم بربري، وما زلنا في حالة صدمة جراء تعرضه للقصف، واستشهاد العائلات التي احتمت في كنفه". هكذا صرّح نائب رئيس مجلس المستشفى الأهلي العربي المعمداني في مدينة غزة الأب فادي دياب. كما قال رئيس وزراء الهند: "أشعر بالصدمة إزاء مجزرة مستشفى المعمداني". ونقرأ بعض العناوين: "صدمة وإدانات دولية لاستهداف إسرائيل المستشفى المعمداني في غزة"، و"صدمة للدفاع المدني بغزة.. لم نجد جرحى في مستشفى المعمداني".

هكذا يشير كثير من التصريحات والعناوين إلى الصدمة، إلى جانب لغة الشهود والصحافيين والمسؤولين. كذلك، كانت لغة الحدث بحد ذاتها تقول شيئاً حقيقياً، وتسرّب الصدمة إلى الجمهور مُباشرةً.
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في اليوم التالي للمجزرة فيديو صوّره الشاب محمد سامي قريقع الذي كان أحد المبادرين في العمل مع مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في غزة. كان هذا الفيديو قد نشره قريقع قبل 24 ساعة من استشهاده مع كل الأطفال الذين كان يظهر معهم وهم يمارسون نشاط دعم نفسي في ساحة المستشفى. تفاعل الجمهور مع محمد والفيديو الذي أعاد نشره العديد من المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، في حالة توثيق عاطفي لهذه المجزرة.
لم تكن ردود الفعل فردية فقط، بل تقدّمت ردود الفعل لتكون حكومية ودولية. أعلن الأردن على أثر هذه المجزرة الحداد مدة ثلاثة أيام. وأعلن رئيس السلطة الفلسطينية أيضاً الحداد مدة ثلاثة أيام على المجزرة أيضاً. يُضاف إلى ذلك التظاهرات الكبيرة التي جابت شوارع بلدان كثيرة، منها لبنان والعراق وتونس والجزائر واليمن والأردن ومصر وإيران وتركيا، احتجاجاً على جرائم الاحتلال. 
كانت كل ردود الفعل هذه تتماهى مع الصدمة وتشكّلها، وتبني حالة من الألم لدى جميع المتلقين، ما جعل تفاعلهم مع أحداث لاحقة متشابهة للمعمداني مختلف تماماً.
هناك عرضان أساسيان قد يظهران على الجمهور يُنبئان بتعرضه للصدمة: الأول وهو الأفكار الداخلية والارتجاع؛ وهذا يعني أن الشخص في حالة تعرضه لصدمة، يبدأ الدماغ حينها بإعادة عرض أو مشاهدة الحدث أكثر من مرة، ليكون العقل في حالة جهوزية في حال حدوث الصدمة مرة أخرى. الثاني وهو التجنب؛ فيساعد التجنب في عدم التفكير في ما حدث مرة أخرى، وبالتالي محاولة إلغاء لأي فعل مشابه لهذا الحدث من الوصول بشكل عميق إلى داخل أدمغتنا. 
وفي محاكاة لصدمة المعمداني، استمر الاحتلال بعدها باستهداف العديد من المستشفيات، في حين بدأت ردود الفعل تتضاءل وتأخذ منحى آخر تماماً.
في العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تعرّض المستشفى الإندونيسي، شمالي القطاع، إلى هجوم أسفر عن استشهاد 12 شخصاً على الأقل، بمن فيهم المرضى ومرافقوهم، بالإضافة إلى إصابة العشرات جرّاء الهجوم. في السادس عشر من ديسمبر/كانون الأول، نشر صحافيون صوراً ومقاطع تظهر التدمير الكبير الذي لحق بمستشفى كمال عدوان شمالي قطاع غزة، نتج عنه تقرير قدّمته الأمم المتحدة، يتحدث عن إدانتها للتدمير الفعلي الذي لحق بالمستشفى، وأدى لاستشهاد العديد من المواطنين.  

في التاسع من فبراير/شباط الحالي، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلية مستشفى الأمل التابع للهلال الأحمر بعد حصاره مدة ثلاثة أيام، وسط قصف مكثف، ما أسفر عن إصابة واستشهاد العشرات من الأشخاص في محيط المستشفى. ثلاثون مستشفى خرجت عن الخدمة في قطاع غزة الآن، لكن لم تعد قدسية المستشفيات لها ذات القيمة بعد صدمة المعمداني. وهذا ذاته ما يحصل مع كل الأحداث الأخرى. سواء كانت هذا الجرائم المتعلقة بقتل المدنيين، أو قصف البيوت فوق رؤوس أصحابها، أو الإعدامات الميدانية، أو القناصة الذين يستهدفون كل فلسطيني يتحرّك في القطاع. شريحة واسعة من الجمهور أمست تتجنّب هذه المشاهد، وتجنبها يعني وجود صدمة تجاهها.
ولا يزال السؤال قائماً: ما هي الوسائل التي يتوجب على الإعلام استخدامها لتوثيق الصور والتعامل مع جمهور قد يكون مصاباً بالصدمة؟

المساهمون